المدار الأول : البداية
لا نقبل ان يقال عنا أننا جزء من الأدب المغترب وكذلك لانؤمن أبدا بتلك المفاهيم التي تروج للتجزئة الثقافية وتضع عملية الإبداع ضمن حالة مم في تكوينات مستلبة لاجذور لها ، نحن الجزء الفاعل والأساسي من الثقافة العربية الجديدة بكل أبعاد المعنى الذي نقصده ونعمل من خلاله ، ، نحن بوابة أو نافذة واسعة للثقافة العربية الوطنية ذات البعد الإنساني ، نمتلك مساحة نظيفة نتباهى بها وتمتد كالأفق نحو تخوم أوطاننا الحبيبة لها اللون الاخضر الزاهي ودار الشمس والقمر ، كشجرة باسقة وارفة الظلال تحيط بها الاقلام المشرعة فوق الصفحات البيضاء من اجل الخير والبناء والحرية والعدالة ومستقبل الإنسان ، نشعر كما لو كنا نمارس هذا العمل في بغداد او دمشق او القاهرة أو بقية المدن العربية الأخرى ، نحن لا نتبنى موقفا سياسيا كما لا نمثل حزبا ولا نقبل ان نكون واجهة لمؤسسات أو منظمات أو اتحادات ، صفحات المدار الأدبي مفتوحة لكل المبدعون العرب اينما كانوا ، وسيقول الجميع أنها صوت الأدب الجديد والثقافة الإنسانية الرفيعة وسنسعى بقوة لتكوين منبرا للكتاب الأحرار ، ومنذ العدد الأول سيلمس الجميع ان المدار الأدبي تقدم الفرصة الكاملة للكتاب الذين تعسرت ظروفهم ولم يتمكنوا من نشر مؤلفاتهم في كل عدد نقدم للقاريء العربي أثرا نفيسا ونرفع الستار عن جهود كبيرة لكي نرفد حضارة الأمة بالجديد والمفيد ونقوم بعمل عجزت عنه جهات عديدة تحمل مسميات الثقافة ، الهيئة الاستشارية للمدار الأدبي والتي تتكون من عدد كبير هم اكاديميون وكتاب وشعراء من العراقيين والعرب المقيمين في الولايات المتحدة وأوروبا وكذلك من الدول العربية يقررون وفق تقليد حضاري نشر المواد التي ستظهر في اعداد المدار الأدبي ووضع الخطة المستقبلية للكتب والمطبوعات التي ستصدر لاحقا عن دار أوروك للنشر والتأليف والترجمة والتي نريد لها ان تكون في المقدمة دائما بما يصدر عنها من انتاج أدبي وثقافي ننشر فيها فصول كتب جديدة ومتنوعة في مجالات الابداع المختلف منها الذي يتناول الحضارة الرافدية وآخر يقدم تجارب الفن القصصي العالمي وأيضا نتابع دراسات وقصائد وكتب مترجمة هذا الموقع بما ينشر سيكون ملتقى الأدباء والفنانين فوق مساحة اليكترونية تقدم الافضل والانفع للمتلقي.
الدكتور شاكر الحاج مخلف
سرقة حضارة العراق
نظرا لللأهمية وتكشف صفحات جديدة من سرقة حضارة العراق – والعثور على أدلة مهمة عن وجود 10000 لوح ورقيم وقطع من التماثيل العراقية الخاصة بحضارة وادي الرافدين العظيم – اعيد نشر الدراسة التي نشرتها وارسلت منها نسخة الى رئيس وزراء العراق – في العام 2008 – واليوم أضع المعلومات الجديد والقديمة تحت تصرف قوى الشعب العراقي الوطنية ونواب الشعب لعل ذلك يفضي إلى حالة ضغطط على الحكومة في استرجاع أثار العراق المسروقة والموجودة في الولايات المتحدة ومتوزعة في عدد من الجامعات الأمريكية وقد تمكنت من الوصول أليها رغم كل المنع والمخاطر
تزامن مع دخول القوات الأمريكية حالة نهب وتدمير واسعة منها ما تعرض له متحف بغداد الوطني للآثار ، نتج عن ذلك الفعل حملة احتجاجات واسعة تعاظمت داخل الولايات المتحدة وشهدت العديد من جلسات الكونغرس الأمريكي الخطب المنددة بما حدث ، وفي التحقيق الذي أجراه الكونغرس مع قائد القوات الأمريكية أفاد : أن للسبب في التدمير هو انشغال الوحدات الأمريكية بتفاصيل حرب الشوارع المحيطة بالمتحف ، ذلك أملى عليها أوليات خاصة ،ولكن ماغواير جبسون – استاذ من جامعة شيكاغو تصدى لذلك وكشف عن سر مهم حيث قال " اجتمعت مع مسئولين في البنتاغون قبل بدء الحرب وقدمت لهم ضمن وفد علمي رفيع المستوى قائمة بمواقع أثرية مهمة وطالبنا بتوفير الحماية لها خصوصا المتحف الوطني العراقي – حذرناهم من أعمال السلب والنهب منذ البداية وأكدوا لنا أنها ستصان – لكن الخسائر هائلة أنهم استطاعوا أن يحموا وزارة النفط وأهملوا حماية متحف الآثار وذلك يعكس موقف التحالف من التراث الثقافي العراقي - ... تقارير كثيرة نشرت فيما بعد أكدت على معلومات في غاية الأهمية – أفادت بأن موظفي وعمال المتحف وقطاعات أخرى من أبناء الشعب العراقي قد قامت بعمل وطني مهم يقع خارج سياق تصور منظومة الأعداء والمخربين واللصوص ، وذلك من خلال الاحتفاظ بالعديد من القطع الآثارية في منازلهم خوفا عليها من أن تقع في أيدي اللصوص ، كما قاموا بغمر السرداب الموجود تحت بناية المصرف المركزي العراقي بالمياه ، حيث توجد فيه كنوز الملك – النمرود – مؤسس الإمبراطورية الآشورية ومنعوا بذلك اللصوص من الوصول إليه ... الذين حاولوا السرقة والتدمير هم من شعب العراق ولكنهم تخلوا عن الموقف الوطني وكانت جهات أجنبية تحركهم وتوجههم ولها المصلحة التاريخية والدينية في حصول الذي حدث .. ومن المعلومات المنشورة والموثقة عن حصاد تلك العاصفة الهوجاء ، سرقة رأس التمثال البرونزي من نينوى للحاكم الاكدي وكذلك الفتاة الموناليزا السومرية ورقم طينية عليها نصوص مختلفة كوثائق إدارية واقتصادية بالإضافة إلى المؤلفات الأدبية كالأساطير والملاحم والأناشيد ومن الرقم المنهوبة جزء من شريعة حمورابي تعود لمتحف اللوفر وتماثيل للنمرود وثور نحاسي من تل العبيد وتمثال للملك انتيمينا وقد بلغ عدد القطع المسروقة حسب إحصائية لليونسكو 15 ألف قطعة ، كما نشر في الصحف ومصادر التلفزة الأجنبية تقارير عن عمليات الحفر التي تعرضت لها مواقع الآثار في الجنوب حيث نشطت تجارة القطع الاثارية استخدم اللصوص الشاحنات والحفارين وحراسا مسلحين لسرقة قطع ذات قيمة عالية والمتاجرة بها ، ومن المواقع التي تعرضت للتدمير والسرقة " تل نفر – تل جوخه – تل سنكره – تل اللوح – اسين – بسمايا – ام العقارب - وفي مناطق الشمال – الحضر – نمرود – كالخو – تل نينوى – تل كش – اكد – كما لحقت أضرار كثيرة في .
موقع بابل بسبب الاستخدام العسكري من قبل القوات الأمريكية
الدكتور شاكر الحاج مخلف
تزامن مع دخول القوات الأمريكية حالة نهب وتدمير واسعة منها ما تعرض له متحف بغداد الوطني للآثار ، نتج عن ذلك الفعل حملة احتجاجات واسعة تعاظمت داخل الولايات المتحدة وشهدت العديد من جلسات الكونغرس الأمريكي الخطب المنددة بما حدث ، وفي التحقيق الذي أجراه الكونغرس مع قائد القوات الأمريكية أفاد : أن للسبب في التدمير هو انشغال الوحدات الأمريكية بتفاصيل حرب الشوارع المحيطة بالمتحف ، ذلك أملى عليها أوليات خاصة ،ولكن ماغواير جبسون – استاذ من جامعة شيكاغو تصدى لذلك وكشف عن سر مهم حيث قال " اجتمعت مع مسئولين في البنتاغون قبل بدء الحرب وقدمت لهم ضمن وفد علمي رفيع المستوى قائمة بمواقع أثرية مهمة وطالبنا بتوفير الحماية لها خصوصا المتحف الوطني العراقي – حذرناهم من أعمال السلب والنهب منذ البداية وأكدوا لنا أنها ستصان – لكن الخسائر هائلة أنهم استطاعوا أن يحموا وزارة النفط وأهملوا حماية متحف الآثار وذلك يعكس موقف التحالف من التراث الثقافي العراقي - ... تقارير كثيرة نشرت فيما بعد أكدت على معلومات في غاية الأهمية – أفادت بأن موظفي وعمال المتحف وقطاعات أخرى من أبناء الشعب العراقي قد قامت بعمل وطني مهم يقع خارج سياق تصور منظومة الأعداء والمخربين واللصوص ، وذلك من خلال الاحتفاظ بالعديد من القطع الآثارية في منازلهم خوفا عليها من أن تقع في أيدي اللصوص ، كما قاموا بغمر السرداب الموجود تحت بناية المصرف المركزي العراقي بالمياه ، حيث توجد فيه كنوز الملك – النمرود – مؤسس الإمبراطورية الآشورية ومنعوا بذلك اللصوص من الوصول إليه ... الذين حاولوا السرقة والتدمير هم من شعب العراق ولكنهم تخلوا عن الموقف الوطني وكانت جهات أجنبية تحركهم وتوجههم ولها المصلحة التاريخية والدينية في حصول الذي حدث .. ومن المعلومات المنشورة والموثقة عن حصاد تلك العاصفة الهوجاء ، سرقة رأس التمثال البرونزي من نينوى للحاكم الاكدي وكذلك الفتاة الموناليزا السومرية ورقم طينية عليها نصوص مختلفة كوثائق إدارية واقتصادية بالإضافة إلى المؤلفات الأدبية كالأساطير والملاحم والأناشيد ومن الرقم المنهوبة جزء من شريعة حمورابي تعود لمتحف اللوفر وتماثيل للنمرود وثور نحاسي من تل العبيد وتمثال للملك انتيمينا وقد بلغ عدد القطع المسروقة حسب إحصائية لليونسكو 15 ألف قطعة ، كما نشر في الصحف ومصادر التلفزة الأجنبية تقارير عن عمليات الحفر التي تعرضت لها مواقع الآثار في الجنوب حيث نشطت تجارة القطع الاثارية استخدم اللصوص الشاحنات والحفارين وحراسا مسلحين لسرقة قطع ذات قيمة عالية والمتاجرة بها ، ومن المواقع التي تعرضت للتدمير والسرقة " تل نفر – تل جوخه – تل سنكره – تل اللوح – اسين – بسمايا – ام العقارب - وفي مناطق الشمال – الحضر – نمرود – كالخو – تل نينوى – تل كش – اكد – كما لحقت أضرار كثيرة في .
موقع بابل بسبب الاستخدام العسكري من قبل القوات الأمريكية
الدكتور شاكر الحاج مخلف
الكَوَّاش ـــ قصة : عبد الستار ناصر
ا
أما بعدُ،
فهو يدري طبعاً، أن السلامة في السكوت، وأن البقاء لله وحده، ها هو "السيد اللاّمي" يحمل رأسه بين يديه ويمشي، يمشي، من عتمة "باب
المعظّم" إلى ظلمة "الرصافي" تحيط به العصافير مرة وتطارده جوقة أطفال مرة.. وسواهما لا أحد يسأل عنه، ذلك أن الحصة التموينية ستأتي بعد قليل، والناس في هرج لا يعلم غير الله ما يجيء بعده من مرج ونحيب؟
-بغداد كانت مدينة ذات يوم.
جلس في مقهى "الشابندر" بين كومة أركيلات وجمر وسعال، سحابة من دخان تتسلل فوق الأحزان، لا أحد يبتسم أبداً في تلك المقهى العجوز، أراد أن يشرب الشاي ((من حق المواطن الشريف أن يشرب الشاي في أي وقت يشاء)) لم يلتفت إليه سوى صباغ أحذية أخطأ المكان، كاد يأخذ الرأس المقطوع عساه يلمع، لكن "السيد اللاّمي" أحس بالرعب كعادته، راح يصرخ، بينما بقية الجسد تضرب كفاً بكف... ذلك يكفي أن يطرده صاحب المقهى لئلا يفزع الزبائن ويعم البلاء.
مرّ بين البيوت العتيقة، أي جمال خفي في هذه المدينة المغطّاة بالتمر والأوامر والتماثيل، بغداد كانت أجمل والنهر فيها أعمق وأطول، ماذا حلّ فيها من داء ووباء؟ يتذكر شلة من أهل محلته في "باب السيف" والصيف آنذاك قصير جداً، لا أحد من أولاد "القشلة" ولا نفر واحد من أبناء "باب الشيخ"، اختفت الدنيا عن شارع الرشيد واحتلت الكلاب الممرات، صارت القطط تموء فوق المزابل، لا شيء سوى الجرائد الملطخة بالمديح ورائحة الفلافل والكتب المهملة قرب رغيف أسود.. بغداد كانت أحلى من شجر الفستق والنعناع (الدنيا مقلوبة والتلفزيون لا يزال على حال واحدة) يصغي إلى صوت أنيق متعاف يتسرب من فتحة الباب:
-العراق هو مفتاح الشرق الأوسط للحرية والكرامة والمساواة.
جلس السيد اللاّمي على دكة من حجر، بينما الرأس لم يزل بين أصابعه يخفي "حريتها" في أن تبتسم، ذلك أنه -قبل غيره- من يعلم نسبة ما يستحقه من هواء وماء وكلام، أغلق أذنيه خوف
أن يستشيط غضباً إذا ما سمع المزيد عن سحر الكرامة وكنوز المساواة ((من حق المواطن الشريف أن يشرب الشاي في أي وقت يشاء)).. تحرك من مكانه فوراً، عطشان، ربما، ودجلة قرب اليدين، أشعل سيجارة (لف) أعطاها إلى فمه: اسكت، من أين يأتي هذا الطابور الغازي من الشحاذين؟ لا تيأس، الحصة هذا اليوم: رز وطحين، والشاي على قفا من (يشيل).. رحمة من السماء، شجر ونخيل ونفط سيكفي حتى أحفاد الجنين، البلد أرضها خير وأنهارها خير، والذي فات مات وما علينا غير أن نضحك ونباهي بقية الأمم بالصبر والشهداء وعودة التجار إلى سوق البازار.. افرح، ستهبط الأموال شمالاً وشرقاً، سيعود الرأس المقطوع إلى قمة الجسد وتنام ملء الجفون، ليست غير ساعة من النحس أنت أقوى منها، والله لا يحب البطرين، النعمة أمامك، ستكفيك إلى يوم الدين، هناك الكثير من الخمرة حتى تغرق، الكثير من الثياب والبطيخ.. لا تزعل، الله لا يحب نكران الجميل، لئن شكرتم لأزيدنكم، قل شكراً على كل شيء، لا تنظر أعلى من رأسك هذه (من راقب الناس مات هماً) ودجلة قرب اليدين، ما عليك غير أن تمد لسانك تشرب وتشكر الله على نعمته الكبرى..
-لكن النهر بعيد، إن دجلة محروس من الجانبين.
النهر قريب جداً، حرام عليك يا رجل، لا تكذب، إنه يمتد من روح الرصافة إلى نبض الكرخ، والكلام رخيص، من العيب أن نفكر هكذا، والنهر أمام اليدين، ذهب السيد اللاّمي نحو "الكاظمية":
-زيارة الإمام واجب.
والناس في لجة من السخط والبكاء والغضب، الصمون الأبيض تائه لا يعرف مكانه أحد، خرج ولم يعد، الناس في حيرة من أمر هذا الطحين، لكن اللاّمي لا يفرق بين رغيف أبيض ورغيف منحوس، الرأس تعبان وأصابع السيد اللاّمي تحمله مع كومة أحزان ولا تتذمر.. وأرجوك أن تتذكر أن الشاي ملك للشعب كله، ومن حقه أن يشربه في أي وقت يشاء.
الكاظمية الحزينة، لم تكن هكذا طوال ما كظمت، الحزن ممنوع والعتب مرفوع بأمر الكواش الأول، حريق في النفوس وليس من جرعة ماء تطفئ ذاك الغضب العارم الذي يمشي حافياً في الطرقات.. الكاظمية تبيع الطرشي والحلويات والكتب المقدسة منذ مئات السنين، حتى إن رجلاً مثل السيد اللاّمي -وهو يمشي برأس مقطوع- مرّ في أسوأ أسواقها وتحت شناشيل بيوتها، بل وفي حضرة موسى بن جعفر، دون أن يلتفت إليه سوى الأطفال مرة والعصافير -سهواً- مرة ثانية، مع أن الحلويات ملء اليدين لم تزل، والكتب المقدسة لا تزال أيضاً أمام العيون، ومن العيب اختراق المعقول في مساحة طولها الكلام وعرضها الأحلام والسلام.. والكاظمية فعلاً لم تكن هكذا طوال ما كظمت، ومن حق الفقراء فيها قول ما يشتهون، لكن الفقير الأبدي الذي جاءها لم يستطع أبداً حتى قراءة سورة الفاتحة عند معصمها الذهبي المرهون.
الحصة التموينية جاءت فعلاً.. تسربت إلى دكاكين الوكلاء، الحمد لله على كثرة الشعير ونسبة الحليب، سيأكل الأطفال حتى تشبع البطون، السيد اللاّمي حتماً سيشرب الشاي وربما يترك السكر في قاع الكوب، تتلذذ الرأس بطعم الثمالة، نظر إلى صف من الشارع مملوء حتى نهايته بأنواع متميزة من الفقراء، فقير يضحك عارياً وهو يمسك نصف رغيف يابس ويهتف بحياة الملوك والسلاطين، امرأة عجوز ترفع ثوبها وتكرر:
-لم يبق غير هذا عندي، فمن يشتريه؟ أدري أنه لم يعد ينفعكم يا كلاب.
فقراء يشربون الشاي -ببلاش- ونسوة لا يملكن غير النحيب تحت عباءات ممزقة لا تستر من أجسادهن غير أجزاء مهملة من الجسد البشري، سقطت عيناه على تمثال بعيد يرفع يده كمن يطرد الطيور عنه، ترى ما أهمية هذه التماثيل والصور الكبيرة على طول بغداد وفي أجمل ميادينها، كم هو سعر الرصافي؟ والكاظمي؟ ومحسن السعدون؟ والمتنبي؟ والمنصور؟ وأبي نواس؟ وإذا كانت الخمرة ممنوعة، لماذا يحتسيها أمام الجميع، شاطر وشجاع هذا الرجل الذي يشرب الممنوع أمام الجموع، كثيرة وكبيرة وفي أحسن صحة، هذه (البلاوي) المنثورة في كل جزء من المدينة، إذا كان أمرها بيدي، سأحطمها وأساوم أثمانها برغيف أبيض للجياع والسكارى والجنود (لكن السكارى أكثر).. طيب، دعونا نستطيب هذا وذاك ونمضي إلى بقية القلاع والحصون، نسأل عن تمثال "الكواش" ندخن السجائر ونطمر الدخان في أحشائنا لئلا تتلطخ ثيابه بالسخام.
السيد اللاّمي ما ينفك يحكي مع نفسه وهو يحمل رأسه بين يديه، يقطع ممرات بغداد وأزقتها وشوارعها دون أن يتعب أبداً، بل، دون أن يشعر بساقيه وهما تنهبان الطرقات بين القصور والبيوت المهدمة والعمارات، بين أكشاك السجائر وأكوام الزبالة وسيارات البيكاب التي تحمل الكثير من التوابيت.. إنه يبتسم، أعني رأسه هو الذي يبتسم قرب تمثال الكواش، يتمنّى -كم تمنى- ولو مرة واحدة، أن يجلس أمام السيد الكواش ويقص حكايته الرهيبة، من يدري، قد يرحمه الكواش ويأمر بإعادته إلى ما فوق الكتفين، لا أحد يستطيع ذلك إلاّ بمشيئته، فهو، كما أمر بقطعه ذات حالة من غضب مقدس، يمكنه دون ريب أن يأمر بلصقه ثانية وهو في حالة من فرح مقدس، وتنتهي المأساة فعلاً.. لكن حماة التمثال يطردونه، حتى قبل أن يفكر في الجلوس أمام الرخام والمرمر، أعني بذلك أمام الضحكة الحلوة العنيدة التي تشع من بين أسنان الكواش وهي تعيد إليه ذاكرة الأمس المجرمة، يوم أن كتب (كلا) في استفتاء الجلوس على عرش المملكة، حتى إنه ما كان يعرف الكتابة أصلاً، أوهموه أولاد القحبة كيف ينقش كلمة (نعم) هكذا كما كتبها على تلك الورقة، وجرى بعدها ما جرى.
ينبغي على السيد "الكواش" أن يعلم بهذه القصة، سوف يقسم بالله العظيم ألف مرة، إنه ما عرف القراءة ولا الكتابة مطلقاً، ثم، هل يعقل أن يكون السيد اللاّمي أو أي "سيد" في البلاد بهذه البلاهة أو بتلك الحماقة عفواً ليكتب كلا وهو يدري حتماً بأنها -على الإطلاق- لن تنفع أمام (نعم)
التي دخلت صناديق الاقتراع- بحشود كما النمل- قبل ختمها بالشمع الأحمر.. معقول؟؟ كيف يصدق الأمير العاقل العبقري المؤمن المجاهد الرصين الصادق الخارق المعظم الفذ المكابر المذهل المستنير: أن محض رجل تافه ضئيل -بل محض زبالة من أبناء الشعب- يمكنه أن يفعل ذلك وهو بكامل قواه العقلية والجسدية؟
رفع رأسه بيديه عالياً، حتى اقترب الرأس من وسط التمثال، وعلى غفلة من الحرس تمكن السيد اللامي أن يهمس بكلمة واحدة قبالة "الكواش" الأول، ثم عاد إلى مكانه توشك الدموع أن تهبط على ثيابه فرحاً بما قال..
مجرد كلمة واحدة لا يدري بها أحد ولم يسمعها أحد، أعادت بعض الطمأنينة إلى نفسه التائهة المغلقة.. لا يمكن الإحساس بهذا "الشيء" الغامض الخفي أمام بقية "البلاوي" المنثورة ما بين الرصافة وخلف أبواب الكرخ.. لا الرصافي (رحمه الله) ولا المتنبي (سامحه الله) ولا شبح المنصور (وهو مثله لا يزال مقطوع الرأس أمام أهل الوشاش المحسوبين ظلماً وافتراء على حي المنصور) لا يعنيه أن يرى أي واحد منهم، لا شيء من السلطة يملكون، لا رأي لهم ولا من صدى لما افترضوه، حتى الحياة غادرتهم -منذ عشرات السنين- ولم يبق منهم سوى الاسمنت والحديد والمرمر الرخيص، ثم.. هذا الشموخ الكاذب الذي أعطاهم أكثر مما كان عندهم.. بينما "الكواش" لا يزال حياً، مزحوماً بما لذّ وطاب من النساء والنبيذ والفواكه والأوامر والرصاص، إنه بحاجة إليه جداً، سيترك لحضرته النبيذ والنساء والفواكه والرصاص، لا يريد منه أي شيء غير "أمر" واحد وأخير" أن تعود الرأس إلى مكانها ليستريح من بلاهة العصافير وهي تهاجمه في النهار والليل، ومن جوقة الأطفال وهم يسخرون من رأسه الحمقاء التي يحملها بين يديه، لا يريد غير أن ترجع الرأس إلى دمها ولحمها، فها هو يمضي إلى الصلاة في أوقاتها الخمسة، يفرضها على نفسه طلباً للرحمة وخوفاً من العقاب العسير الذي لا يزال يحلم فيه.
أجل، زيارة الإمام واجب، لا أمير للمؤمنين سوى أميرهم الأول، عادة ما يكون الأمير الثاني محض تزوير وكلام فائض، لكن السيد اللاّمي -كما يتذكر- أخذوه في طفولته إلى أمير في "الحلة" وأمير في "نينوى" وأمير في "الكوفة" ورابع في "الكاظمية" وما إن مات الوالد حتى دفنوه في مقبرة "الأمير".
كان هذا في زمن عافه خلف جناح الطفولة والصبا، ما يهمه -الآن- هو أن يعود الرأس إلى مكانه، فماذا فعل الأمراء له وقد ذهب إليهم جميعاً وبكى في حضرتهم وأخبرهم -خفية- بما فعل الكواش الأول برأسه وأحلامه ورجولته؟ لماذا لم يتحرك أي واحد منهم للرد على هذه البلوى المزدوجة، وبمن يستعين بعد اليوم إذا كان أمير "كربلاء" قد أخبره (أن لا إله إلا الله) بينما اقترب الأمير الثالث ليقول إن (الصبر مفتاح الـ...) يا ناس -يصرخ السيد اللامي ويلطم كما النساء- المفتاح مفقود، ضاع منذ سنين طوال، وما عليكم غير صناعة مفتاح آخر يناسب ما نحن فيه من ضيم وجوع وذل وألم:
-بمن أستعين والعمر قصير، لم يبق منه سوى عام أو عامين؟ ألا يحق لي أن أعيش بقية أيامي برأس صحيح أنام وأصحو وأمشي مثل بقية خلق الله؟
تمثال "الكواش" يحدق فيه من الزوايا جميعها، وكذلك من الشوارع والميادين ودور الحكومة، يراقبه من خصاص الأصابع ومن وراء الثكنات العسكرية ومن خلف الصحف المخرمة والخبراء المخرمين، لا يمكن أن يمشي مسافة أطول، إنه محكوم -مثل بقية البشر- بمساحة طولها دون طول وامتدادها يشبه المقصلة.. المسموح هو الممنوع، والسيد اللامي لا يمكن أن يمشي أطول من هذه المسافة الموجزة الرهيبة.. وبرغم ذلك، ما كان من رجل -في عرض البلاد واعتراضاتها- قد فعلها من قبل، فها هو يقطع شارع الرشيد وينزل منه خلسة إلى شارع "الوصي" ثم يدخل "التوراة" حتى اعوجاج "أبو دودو" ومنهما إلى "سوق حمادة" في طريقه إلى "الباب الشرقي" الذي نزعوا شرقيته تماماً ورموه إلى تلّة من حشيش ودخان.. رأى "الكاظمية" شبراً شبراً وعاد من هيبة الإمام إلى جسر "الأئمة" مخترقاً بيوت "الأعظمية" وبابها، ثم انزوى ثانية بين المقاهي وأكشاك الجرائد الفقيرة، ينظر إلى صاحب الفخامة رئيس الوزراء النايجيري وهو يقدم باقة ورد إلى مولانا الكواش الأول بمناسبة اعتلاء العرش المجيد.. إنه يعشق الصحف اليومية، هكذا دون سبب، ربما لأنه لا يعرف الكتابة ولا القراءة، يسأل -بإصرار مضحك ممل- عن صورة في جريدة ((كلاب تحتل مدينة وتطرد أهلها نحو الجبال والسهول)) لا أحد يلتفت إليه، ما شأنك أيها الأحمق بما تنشر الجرائد هذا اليوم؟ كم هو مقرف أن تكون الرأس خارج الجسد؟ صبيّ واحد جاء بالجريدة وأخبره أن القنابل تسقط على كل جزء من تلك المملكة البعيدة:
-هل تعرف اسمها يا بني؟
قال:
-طبعاً، لكن الجريدة لم تكتبه ولم تنطق به.
ثم نظر الصبي إلى الرأس وقال:
-كيف تمشي يا عم برأس مقطوع؟
الجريدة لم تزل قرب اليدين، أشار السيد اللاّمي إلى جلالة الملك الكواش وقال:
-هو الذي أراد ذلك.
ثم راح يكرر وهو يوشك أن يبكي:
-هو الذي أراد ذلك يا بني، سامحه الله.
عندها قال الصبي -وهو لم يزل في الثالثة عشرة- بحكمة تفوق المعقول:
-أنا لا أريد أن يسامحه الله، إنه يسبقنا ويفعل الشيء الذي نتمنّى أن نفعله فيه ذات يوم..
راح السيد اللاّمي يكرر بشيء من البلاهة والألم:
-ذات يوم، ذات يوم، ذات متى؟ المملكة محروسة بالشياطين من كل جانب، وحماة الكواش أكثر من نصف شعوب المملكة؟؟
جاء صاحب المقهى غاضباً، طرد الصبي بيده اليسرى، ثم صرخ بالسيد اللاّمي وعاد ليطرده باليد اليمنى، يزأر بهياج وحشي عجيب:
-هذه مقهى لشرب الشاي فقط، السياسة يا أولاد الكلب هناك في مقهى البعران.
أوشكت الرأس أن تتدحرج من يد السيد اللامي، لكنه تمكن أن يمسكها قبل أن تسقط فوق أركيلة شيخ من زبائن تلك المقهى.. ثمة من راح يصرخ مرعوباً:
-الله أكبر، الله أكبر.
هناك من راح يردد بهلع وهو يغادر المقهى:
-يوم القيامة جاء، رأس مقطوع وصاحبها على قيد الحياة؟!
صحيح أن الرأس لم يسقط من يد السيد اللاّمي، لكن زبائن المقهى نهضوا من أماكنهم رعباً وجزعاً وهم ينظرون إلى الرأس يوشك أن يقع فوق اسمنت المقهى.. قال الشيخ الذي يدخن أركيلته التركية:
-الحمد لله، لو سقط هذا الرأس الآن، لكان ينبغي الذهاب إلى بيت الله الحرام ثانية حتى أستغفر الله وأعتذر.
قال صاحب المقهى وهو يلتفت نحو زبائنه خجلاً خائفاً:
-البلاوي يا جماعة تأتي هذه المقهى كما يأتي النمل على جثث المقابر، غداً والله سأذبح (ضحية) على هذه العتبة.
ثم راح يضرب عتبة المقهى بقوة، بينما تحرك السيد اللاّمي بهدوء وسلام، لم يلتفت أبداً إلى زبائن هذا المقهى العجوز، يدري أن الكلام هنا لا يعني لهم أي شيء، نظر إلى السماء، زرقاء خالية من المطر، ابتسم الرأس وقال:
-كانت بغداد مدينة فعلاً.
أمسك رأسه -بين يديه- بقوة، قرر أن يعثر على حلّ نهائي لهذه البلوى، ليس من أحد ينفعه ولا من أحد يستجير به، الكواش الأول "ما ترك للناس فضة إلاّ فضّها، ولا ذهباً إلاّ ذهب به، ولا غلّة إلاّ غلّها، ولا ضيعة إلاّ أضاعها ولا عرضاً إلاّ عرّض به.."
ما عاد من رجاء في الأرض ولا إشارة من السماء.. والبقاء هكذا دون رأس محض جحيم ينهش اللحم وينشف الدم في العروق.. تحسس الرأس تحت العينين، إنه يبكي فعلاً، يبكي بغزارة، فما كان منه غير أن يمضي إلى تمثال الكواش، اخترق صفوف الحرس وهو يمشي مخبولاً يائساً، ترك الرأس عند القدمين، تحت قوس بنطلون الكواش، عاف الرأس وحده، تحلق فوقه العصافير
تخاف الاقتراب منه، وعاد يمشي نحو بغداد الحزينة دون رأس.. تركه هناك تحت شمس الكواش، وراح الجسد يمشي وحيداً يتخبط في الطرقات بين إشارات المرور وإعوجاج الشوارع وزعيق الحافلات، حتى إذا ما ارتطم بأول مركبة في الطريق -وأيقن أنها قد مزقته تماماً- صاح الرأس من هناك، من تحت سيقان الكواش:
-آخ.
في الصباح، عند السابعة تماماً، جاء زبّال المملكة الشاطر، رفع الرأس المقتول ورماه في عربة الزبالة.. ثم على بعد خطوات من الرأس، رأى جثة السيد اللاّمي، فما كان عليه غير أن يرفعه بعناء كبير ويحشره بين كومة النفايات في العربة، كان عليه أن يفعل ذلك بسرعة، فهو -دون سواه بين بقية الزبالين- يدري أن الزبالة في هذه المملكة لا بد أن تجمع فوراً لئلا يغضب مولاه الكواش إذا ما مرّ به ذات صباح..
كان، وهو يدفع بيديه عربة الزبالة (ينقل بها جثث الكلاب والفئران ونفايات البيوت) لا يدري هو نفسه لماذا -وللمرة الأولى طوال عمله- راح يصرخ عالياً بين القلاع والقصور:
-زبل، زبل، زبل
أما بعدُ،
فهو يدري طبعاً، أن السلامة في السكوت، وأن البقاء لله وحده، ها هو "السيد اللاّمي" يحمل رأسه بين يديه ويمشي، يمشي، من عتمة "باب
المعظّم" إلى ظلمة "الرصافي" تحيط به العصافير مرة وتطارده جوقة أطفال مرة.. وسواهما لا أحد يسأل عنه، ذلك أن الحصة التموينية ستأتي بعد قليل، والناس في هرج لا يعلم غير الله ما يجيء بعده من مرج ونحيب؟
-بغداد كانت مدينة ذات يوم.
جلس في مقهى "الشابندر" بين كومة أركيلات وجمر وسعال، سحابة من دخان تتسلل فوق الأحزان، لا أحد يبتسم أبداً في تلك المقهى العجوز، أراد أن يشرب الشاي ((من حق المواطن الشريف أن يشرب الشاي في أي وقت يشاء)) لم يلتفت إليه سوى صباغ أحذية أخطأ المكان، كاد يأخذ الرأس المقطوع عساه يلمع، لكن "السيد اللاّمي" أحس بالرعب كعادته، راح يصرخ، بينما بقية الجسد تضرب كفاً بكف... ذلك يكفي أن يطرده صاحب المقهى لئلا يفزع الزبائن ويعم البلاء.
مرّ بين البيوت العتيقة، أي جمال خفي في هذه المدينة المغطّاة بالتمر والأوامر والتماثيل، بغداد كانت أجمل والنهر فيها أعمق وأطول، ماذا حلّ فيها من داء ووباء؟ يتذكر شلة من أهل محلته في "باب السيف" والصيف آنذاك قصير جداً، لا أحد من أولاد "القشلة" ولا نفر واحد من أبناء "باب الشيخ"، اختفت الدنيا عن شارع الرشيد واحتلت الكلاب الممرات، صارت القطط تموء فوق المزابل، لا شيء سوى الجرائد الملطخة بالمديح ورائحة الفلافل والكتب المهملة قرب رغيف أسود.. بغداد كانت أحلى من شجر الفستق والنعناع (الدنيا مقلوبة والتلفزيون لا يزال على حال واحدة) يصغي إلى صوت أنيق متعاف يتسرب من فتحة الباب:
-العراق هو مفتاح الشرق الأوسط للحرية والكرامة والمساواة.
جلس السيد اللاّمي على دكة من حجر، بينما الرأس لم يزل بين أصابعه يخفي "حريتها" في أن تبتسم، ذلك أنه -قبل غيره- من يعلم نسبة ما يستحقه من هواء وماء وكلام، أغلق أذنيه خوف
أن يستشيط غضباً إذا ما سمع المزيد عن سحر الكرامة وكنوز المساواة ((من حق المواطن الشريف أن يشرب الشاي في أي وقت يشاء)).. تحرك من مكانه فوراً، عطشان، ربما، ودجلة قرب اليدين، أشعل سيجارة (لف) أعطاها إلى فمه: اسكت، من أين يأتي هذا الطابور الغازي من الشحاذين؟ لا تيأس، الحصة هذا اليوم: رز وطحين، والشاي على قفا من (يشيل).. رحمة من السماء، شجر ونخيل ونفط سيكفي حتى أحفاد الجنين، البلد أرضها خير وأنهارها خير، والذي فات مات وما علينا غير أن نضحك ونباهي بقية الأمم بالصبر والشهداء وعودة التجار إلى سوق البازار.. افرح، ستهبط الأموال شمالاً وشرقاً، سيعود الرأس المقطوع إلى قمة الجسد وتنام ملء الجفون، ليست غير ساعة من النحس أنت أقوى منها، والله لا يحب البطرين، النعمة أمامك، ستكفيك إلى يوم الدين، هناك الكثير من الخمرة حتى تغرق، الكثير من الثياب والبطيخ.. لا تزعل، الله لا يحب نكران الجميل، لئن شكرتم لأزيدنكم، قل شكراً على كل شيء، لا تنظر أعلى من رأسك هذه (من راقب الناس مات هماً) ودجلة قرب اليدين، ما عليك غير أن تمد لسانك تشرب وتشكر الله على نعمته الكبرى..
-لكن النهر بعيد، إن دجلة محروس من الجانبين.
النهر قريب جداً، حرام عليك يا رجل، لا تكذب، إنه يمتد من روح الرصافة إلى نبض الكرخ، والكلام رخيص، من العيب أن نفكر هكذا، والنهر أمام اليدين، ذهب السيد اللاّمي نحو "الكاظمية":
-زيارة الإمام واجب.
والناس في لجة من السخط والبكاء والغضب، الصمون الأبيض تائه لا يعرف مكانه أحد، خرج ولم يعد، الناس في حيرة من أمر هذا الطحين، لكن اللاّمي لا يفرق بين رغيف أبيض ورغيف منحوس، الرأس تعبان وأصابع السيد اللاّمي تحمله مع كومة أحزان ولا تتذمر.. وأرجوك أن تتذكر أن الشاي ملك للشعب كله، ومن حقه أن يشربه في أي وقت يشاء.
الكاظمية الحزينة، لم تكن هكذا طوال ما كظمت، الحزن ممنوع والعتب مرفوع بأمر الكواش الأول، حريق في النفوس وليس من جرعة ماء تطفئ ذاك الغضب العارم الذي يمشي حافياً في الطرقات.. الكاظمية تبيع الطرشي والحلويات والكتب المقدسة منذ مئات السنين، حتى إن رجلاً مثل السيد اللاّمي -وهو يمشي برأس مقطوع- مرّ في أسوأ أسواقها وتحت شناشيل بيوتها، بل وفي حضرة موسى بن جعفر، دون أن يلتفت إليه سوى الأطفال مرة والعصافير -سهواً- مرة ثانية، مع أن الحلويات ملء اليدين لم تزل، والكتب المقدسة لا تزال أيضاً أمام العيون، ومن العيب اختراق المعقول في مساحة طولها الكلام وعرضها الأحلام والسلام.. والكاظمية فعلاً لم تكن هكذا طوال ما كظمت، ومن حق الفقراء فيها قول ما يشتهون، لكن الفقير الأبدي الذي جاءها لم يستطع أبداً حتى قراءة سورة الفاتحة عند معصمها الذهبي المرهون.
الحصة التموينية جاءت فعلاً.. تسربت إلى دكاكين الوكلاء، الحمد لله على كثرة الشعير ونسبة الحليب، سيأكل الأطفال حتى تشبع البطون، السيد اللاّمي حتماً سيشرب الشاي وربما يترك السكر في قاع الكوب، تتلذذ الرأس بطعم الثمالة، نظر إلى صف من الشارع مملوء حتى نهايته بأنواع متميزة من الفقراء، فقير يضحك عارياً وهو يمسك نصف رغيف يابس ويهتف بحياة الملوك والسلاطين، امرأة عجوز ترفع ثوبها وتكرر:
-لم يبق غير هذا عندي، فمن يشتريه؟ أدري أنه لم يعد ينفعكم يا كلاب.
فقراء يشربون الشاي -ببلاش- ونسوة لا يملكن غير النحيب تحت عباءات ممزقة لا تستر من أجسادهن غير أجزاء مهملة من الجسد البشري، سقطت عيناه على تمثال بعيد يرفع يده كمن يطرد الطيور عنه، ترى ما أهمية هذه التماثيل والصور الكبيرة على طول بغداد وفي أجمل ميادينها، كم هو سعر الرصافي؟ والكاظمي؟ ومحسن السعدون؟ والمتنبي؟ والمنصور؟ وأبي نواس؟ وإذا كانت الخمرة ممنوعة، لماذا يحتسيها أمام الجميع، شاطر وشجاع هذا الرجل الذي يشرب الممنوع أمام الجموع، كثيرة وكبيرة وفي أحسن صحة، هذه (البلاوي) المنثورة في كل جزء من المدينة، إذا كان أمرها بيدي، سأحطمها وأساوم أثمانها برغيف أبيض للجياع والسكارى والجنود (لكن السكارى أكثر).. طيب، دعونا نستطيب هذا وذاك ونمضي إلى بقية القلاع والحصون، نسأل عن تمثال "الكواش" ندخن السجائر ونطمر الدخان في أحشائنا لئلا تتلطخ ثيابه بالسخام.
السيد اللاّمي ما ينفك يحكي مع نفسه وهو يحمل رأسه بين يديه، يقطع ممرات بغداد وأزقتها وشوارعها دون أن يتعب أبداً، بل، دون أن يشعر بساقيه وهما تنهبان الطرقات بين القصور والبيوت المهدمة والعمارات، بين أكشاك السجائر وأكوام الزبالة وسيارات البيكاب التي تحمل الكثير من التوابيت.. إنه يبتسم، أعني رأسه هو الذي يبتسم قرب تمثال الكواش، يتمنّى -كم تمنى- ولو مرة واحدة، أن يجلس أمام السيد الكواش ويقص حكايته الرهيبة، من يدري، قد يرحمه الكواش ويأمر بإعادته إلى ما فوق الكتفين، لا أحد يستطيع ذلك إلاّ بمشيئته، فهو، كما أمر بقطعه ذات حالة من غضب مقدس، يمكنه دون ريب أن يأمر بلصقه ثانية وهو في حالة من فرح مقدس، وتنتهي المأساة فعلاً.. لكن حماة التمثال يطردونه، حتى قبل أن يفكر في الجلوس أمام الرخام والمرمر، أعني بذلك أمام الضحكة الحلوة العنيدة التي تشع من بين أسنان الكواش وهي تعيد إليه ذاكرة الأمس المجرمة، يوم أن كتب (كلا) في استفتاء الجلوس على عرش المملكة، حتى إنه ما كان يعرف الكتابة أصلاً، أوهموه أولاد القحبة كيف ينقش كلمة (نعم) هكذا كما كتبها على تلك الورقة، وجرى بعدها ما جرى.
ينبغي على السيد "الكواش" أن يعلم بهذه القصة، سوف يقسم بالله العظيم ألف مرة، إنه ما عرف القراءة ولا الكتابة مطلقاً، ثم، هل يعقل أن يكون السيد اللاّمي أو أي "سيد" في البلاد بهذه البلاهة أو بتلك الحماقة عفواً ليكتب كلا وهو يدري حتماً بأنها -على الإطلاق- لن تنفع أمام (نعم)
التي دخلت صناديق الاقتراع- بحشود كما النمل- قبل ختمها بالشمع الأحمر.. معقول؟؟ كيف يصدق الأمير العاقل العبقري المؤمن المجاهد الرصين الصادق الخارق المعظم الفذ المكابر المذهل المستنير: أن محض رجل تافه ضئيل -بل محض زبالة من أبناء الشعب- يمكنه أن يفعل ذلك وهو بكامل قواه العقلية والجسدية؟
رفع رأسه بيديه عالياً، حتى اقترب الرأس من وسط التمثال، وعلى غفلة من الحرس تمكن السيد اللامي أن يهمس بكلمة واحدة قبالة "الكواش" الأول، ثم عاد إلى مكانه توشك الدموع أن تهبط على ثيابه فرحاً بما قال..
مجرد كلمة واحدة لا يدري بها أحد ولم يسمعها أحد، أعادت بعض الطمأنينة إلى نفسه التائهة المغلقة.. لا يمكن الإحساس بهذا "الشيء" الغامض الخفي أمام بقية "البلاوي" المنثورة ما بين الرصافة وخلف أبواب الكرخ.. لا الرصافي (رحمه الله) ولا المتنبي (سامحه الله) ولا شبح المنصور (وهو مثله لا يزال مقطوع الرأس أمام أهل الوشاش المحسوبين ظلماً وافتراء على حي المنصور) لا يعنيه أن يرى أي واحد منهم، لا شيء من السلطة يملكون، لا رأي لهم ولا من صدى لما افترضوه، حتى الحياة غادرتهم -منذ عشرات السنين- ولم يبق منهم سوى الاسمنت والحديد والمرمر الرخيص، ثم.. هذا الشموخ الكاذب الذي أعطاهم أكثر مما كان عندهم.. بينما "الكواش" لا يزال حياً، مزحوماً بما لذّ وطاب من النساء والنبيذ والفواكه والأوامر والرصاص، إنه بحاجة إليه جداً، سيترك لحضرته النبيذ والنساء والفواكه والرصاص، لا يريد منه أي شيء غير "أمر" واحد وأخير" أن تعود الرأس إلى مكانها ليستريح من بلاهة العصافير وهي تهاجمه في النهار والليل، ومن جوقة الأطفال وهم يسخرون من رأسه الحمقاء التي يحملها بين يديه، لا يريد غير أن ترجع الرأس إلى دمها ولحمها، فها هو يمضي إلى الصلاة في أوقاتها الخمسة، يفرضها على نفسه طلباً للرحمة وخوفاً من العقاب العسير الذي لا يزال يحلم فيه.
أجل، زيارة الإمام واجب، لا أمير للمؤمنين سوى أميرهم الأول، عادة ما يكون الأمير الثاني محض تزوير وكلام فائض، لكن السيد اللاّمي -كما يتذكر- أخذوه في طفولته إلى أمير في "الحلة" وأمير في "نينوى" وأمير في "الكوفة" ورابع في "الكاظمية" وما إن مات الوالد حتى دفنوه في مقبرة "الأمير".
كان هذا في زمن عافه خلف جناح الطفولة والصبا، ما يهمه -الآن- هو أن يعود الرأس إلى مكانه، فماذا فعل الأمراء له وقد ذهب إليهم جميعاً وبكى في حضرتهم وأخبرهم -خفية- بما فعل الكواش الأول برأسه وأحلامه ورجولته؟ لماذا لم يتحرك أي واحد منهم للرد على هذه البلوى المزدوجة، وبمن يستعين بعد اليوم إذا كان أمير "كربلاء" قد أخبره (أن لا إله إلا الله) بينما اقترب الأمير الثالث ليقول إن (الصبر مفتاح الـ...) يا ناس -يصرخ السيد اللامي ويلطم كما النساء- المفتاح مفقود، ضاع منذ سنين طوال، وما عليكم غير صناعة مفتاح آخر يناسب ما نحن فيه من ضيم وجوع وذل وألم:
-بمن أستعين والعمر قصير، لم يبق منه سوى عام أو عامين؟ ألا يحق لي أن أعيش بقية أيامي برأس صحيح أنام وأصحو وأمشي مثل بقية خلق الله؟
تمثال "الكواش" يحدق فيه من الزوايا جميعها، وكذلك من الشوارع والميادين ودور الحكومة، يراقبه من خصاص الأصابع ومن وراء الثكنات العسكرية ومن خلف الصحف المخرمة والخبراء المخرمين، لا يمكن أن يمشي مسافة أطول، إنه محكوم -مثل بقية البشر- بمساحة طولها دون طول وامتدادها يشبه المقصلة.. المسموح هو الممنوع، والسيد اللامي لا يمكن أن يمشي أطول من هذه المسافة الموجزة الرهيبة.. وبرغم ذلك، ما كان من رجل -في عرض البلاد واعتراضاتها- قد فعلها من قبل، فها هو يقطع شارع الرشيد وينزل منه خلسة إلى شارع "الوصي" ثم يدخل "التوراة" حتى اعوجاج "أبو دودو" ومنهما إلى "سوق حمادة" في طريقه إلى "الباب الشرقي" الذي نزعوا شرقيته تماماً ورموه إلى تلّة من حشيش ودخان.. رأى "الكاظمية" شبراً شبراً وعاد من هيبة الإمام إلى جسر "الأئمة" مخترقاً بيوت "الأعظمية" وبابها، ثم انزوى ثانية بين المقاهي وأكشاك الجرائد الفقيرة، ينظر إلى صاحب الفخامة رئيس الوزراء النايجيري وهو يقدم باقة ورد إلى مولانا الكواش الأول بمناسبة اعتلاء العرش المجيد.. إنه يعشق الصحف اليومية، هكذا دون سبب، ربما لأنه لا يعرف الكتابة ولا القراءة، يسأل -بإصرار مضحك ممل- عن صورة في جريدة ((كلاب تحتل مدينة وتطرد أهلها نحو الجبال والسهول)) لا أحد يلتفت إليه، ما شأنك أيها الأحمق بما تنشر الجرائد هذا اليوم؟ كم هو مقرف أن تكون الرأس خارج الجسد؟ صبيّ واحد جاء بالجريدة وأخبره أن القنابل تسقط على كل جزء من تلك المملكة البعيدة:
-هل تعرف اسمها يا بني؟
قال:
-طبعاً، لكن الجريدة لم تكتبه ولم تنطق به.
ثم نظر الصبي إلى الرأس وقال:
-كيف تمشي يا عم برأس مقطوع؟
الجريدة لم تزل قرب اليدين، أشار السيد اللاّمي إلى جلالة الملك الكواش وقال:
-هو الذي أراد ذلك.
ثم راح يكرر وهو يوشك أن يبكي:
-هو الذي أراد ذلك يا بني، سامحه الله.
عندها قال الصبي -وهو لم يزل في الثالثة عشرة- بحكمة تفوق المعقول:
-أنا لا أريد أن يسامحه الله، إنه يسبقنا ويفعل الشيء الذي نتمنّى أن نفعله فيه ذات يوم..
راح السيد اللاّمي يكرر بشيء من البلاهة والألم:
-ذات يوم، ذات يوم، ذات متى؟ المملكة محروسة بالشياطين من كل جانب، وحماة الكواش أكثر من نصف شعوب المملكة؟؟
جاء صاحب المقهى غاضباً، طرد الصبي بيده اليسرى، ثم صرخ بالسيد اللاّمي وعاد ليطرده باليد اليمنى، يزأر بهياج وحشي عجيب:
-هذه مقهى لشرب الشاي فقط، السياسة يا أولاد الكلب هناك في مقهى البعران.
أوشكت الرأس أن تتدحرج من يد السيد اللامي، لكنه تمكن أن يمسكها قبل أن تسقط فوق أركيلة شيخ من زبائن تلك المقهى.. ثمة من راح يصرخ مرعوباً:
-الله أكبر، الله أكبر.
هناك من راح يردد بهلع وهو يغادر المقهى:
-يوم القيامة جاء، رأس مقطوع وصاحبها على قيد الحياة؟!
صحيح أن الرأس لم يسقط من يد السيد اللاّمي، لكن زبائن المقهى نهضوا من أماكنهم رعباً وجزعاً وهم ينظرون إلى الرأس يوشك أن يقع فوق اسمنت المقهى.. قال الشيخ الذي يدخن أركيلته التركية:
-الحمد لله، لو سقط هذا الرأس الآن، لكان ينبغي الذهاب إلى بيت الله الحرام ثانية حتى أستغفر الله وأعتذر.
قال صاحب المقهى وهو يلتفت نحو زبائنه خجلاً خائفاً:
-البلاوي يا جماعة تأتي هذه المقهى كما يأتي النمل على جثث المقابر، غداً والله سأذبح (ضحية) على هذه العتبة.
ثم راح يضرب عتبة المقهى بقوة، بينما تحرك السيد اللاّمي بهدوء وسلام، لم يلتفت أبداً إلى زبائن هذا المقهى العجوز، يدري أن الكلام هنا لا يعني لهم أي شيء، نظر إلى السماء، زرقاء خالية من المطر، ابتسم الرأس وقال:
-كانت بغداد مدينة فعلاً.
أمسك رأسه -بين يديه- بقوة، قرر أن يعثر على حلّ نهائي لهذه البلوى، ليس من أحد ينفعه ولا من أحد يستجير به، الكواش الأول "ما ترك للناس فضة إلاّ فضّها، ولا ذهباً إلاّ ذهب به، ولا غلّة إلاّ غلّها، ولا ضيعة إلاّ أضاعها ولا عرضاً إلاّ عرّض به.."
ما عاد من رجاء في الأرض ولا إشارة من السماء.. والبقاء هكذا دون رأس محض جحيم ينهش اللحم وينشف الدم في العروق.. تحسس الرأس تحت العينين، إنه يبكي فعلاً، يبكي بغزارة، فما كان منه غير أن يمضي إلى تمثال الكواش، اخترق صفوف الحرس وهو يمشي مخبولاً يائساً، ترك الرأس عند القدمين، تحت قوس بنطلون الكواش، عاف الرأس وحده، تحلق فوقه العصافير
تخاف الاقتراب منه، وعاد يمشي نحو بغداد الحزينة دون رأس.. تركه هناك تحت شمس الكواش، وراح الجسد يمشي وحيداً يتخبط في الطرقات بين إشارات المرور وإعوجاج الشوارع وزعيق الحافلات، حتى إذا ما ارتطم بأول مركبة في الطريق -وأيقن أنها قد مزقته تماماً- صاح الرأس من هناك، من تحت سيقان الكواش:
-آخ.
في الصباح، عند السابعة تماماً، جاء زبّال المملكة الشاطر، رفع الرأس المقتول ورماه في عربة الزبالة.. ثم على بعد خطوات من الرأس، رأى جثة السيد اللاّمي، فما كان عليه غير أن يرفعه بعناء كبير ويحشره بين كومة النفايات في العربة، كان عليه أن يفعل ذلك بسرعة، فهو -دون سواه بين بقية الزبالين- يدري أن الزبالة في هذه المملكة لا بد أن تجمع فوراً لئلا يغضب مولاه الكواش إذا ما مرّ به ذات صباح..
كان، وهو يدفع بيديه عربة الزبالة (ينقل بها جثث الكلاب والفئران ونفايات البيوت) لا يدري هو نفسه لماذا -وللمرة الأولى طوال عمله- راح يصرخ عالياً بين القلاع والقصور:
-زبل، زبل، زبل
سنوات البكارة ـــ قصة: نصرت مردان
أخذت أقلب صفحات الدفتر المترب الذي تآكلت صفحاته الصفراء المهترئة. لم يكن فيه إلا صفحات قليلة تعكس أحاسيس قلب كان ينبض في يوم ما. لم أجد نفسي إلا منشغلاً بقراءة هذه الأسطر:
3 آب 1965
كان حصان البهجة، والذي أسميه أحياناً (حصان العشب الأخضر) يقف بصلابة كرجل مبهج. وكنت على مقعدي ككل مرة. هذا هو اليوم الثالث الذي أرى الحصان فيه ويبهرني. كان هو أيضاً يحدق في عينيّ وكأنه يريد أن يشمني وكأنني زهرته البرية.
قالت أمي: الطعام يحترق.
وهرعت إلى المطبخ. الطعام على وشك الاحتراق. تداركت الأمر. من أكثر الأشياء الملتصقة بي، المطبخ وأمي أما الحصان فشيء جديد ومثير. لأنني حينما أراه أهتاج، وأتمنى لو أهرع إليه وأزرعه على الكرسي ثم أكلمه أشياء قد تبدو تافهة ثم أغسله في الحمام، وأمرر يدي على شعره المتدلي ثم أمتطيه في سفرة أشم فيها رائحة العشب الأخضر، ورائحة نفسي ورائحة الحرية. حقاً إن الحرية مثيرة. إنني أراها رجلاً فطرياً مزروعاً بالشعر والصلابة يشربني مثل الماء. أعتذر ربما حرماني يجعل رؤيتي لبعض الأمور تبدو ضيقة.
صرخت أمي من جديد: جهزي المائدة.
ومثل آلاف المرات، جهزت المائدة. أكلنا في الأطباق نفسها. وبالملاعق نفسها. تبادلنا كلمات قصيرة. كل ما حصل أشياء مكررة وتافهة. لا أريد الكتابة عنها.
عدت إلى غرفتي. اقترب الحصان قليلاً. بدا وكأنه سيقفز إلى غرفتي. بين حين وآخر يحني رأسه الجميل إلى العشب ثم يرفعه إلي. إنه وحيد. مشى عدة خطوات، واكتشفت ببؤس حقيقي أنه يعرج في مشيته ويتألم.
الظلمة تنزل كالصدأ، ويلتصق بالغرفة والنافذة والكون. بيتنا الذي يقع تحت أشجار ضخمة، يظلم مسرعاً.
والدتي أمام التلفزيون ووالدي يقرأ جريدة مسائية. ولفت الظلمة وجه الحصان. تمددت على السرير. لا أشعر بالنعاس. الاسترخاء يشعرني براحة ذهنية.
قالت خالتي قبل أسبوع بأنها قلقة لعدم زواج ابنتها، وأنها لن ترتاح إلا حين تتزوج. وضحكت ابنتها ضحكة شاحبة. كانت قلقة أكثر من أمها.
أوه.... لست أدري لماذا أكتب هذه الأشياء التافهة؟ لست أدري؟... فكل ما في حياتي تافه. إنني أشكو من الفراغ.
20 آب 1965.
اقترب رجل بدين من الحصان الذي نظر إليه بحذر. رفع الرجل بندقيته. وكالصاعقة انطلقت ثلاث طلقات.
سقط الحصان. واختلجت أطرافه عدة مرات ثم صمتت. تلون العشب الأخضر بالدم وجمع لونين متناقضين.
صرخت من النافذة: أيها الوحش... أيها الكريه.
ضحك بوساخة: كان يعرج يا آنستي. لم أعد بحاجة إليه.
نظرت إلى عيني الحصان. كانتا براقتين. وقعت متهالكة على الكرسي. هاقد انطفأ الشيء المبهج في حياتي. عن ماذا أكتب؟..
نهضت ورأيت رجلين يجران الحصان من رجليه. ويربطانه خلف سيارة سوداء.
قالت أمي وهي تتأملني: لماذا كنت تصرخين؟
قلت منتحبة: لقد قتلوا الحصان؟
ـ أي حصان؟
ـ حصان كان يقف وينظر إلى عيني. كان صديقي.
نظرت إلي بسخرية وخرجت. بعد قليل سيأتي وقت الغداء، وبنفس الأطباق والملاعق سنأكل كالعادة، ثم أصعد إلى غرفتي. لن أجد شيئاً أكتب عنه بعد اليوم.
5 كانون الثاني 1966
قال أبي وهو يرفع عينيه عن الجريدة الصباحية: الشرطة تبحث عن سجين هارب. هذه هي صورته.
نظرت أمي إلى الصورة قائلة:
ـ مسكين إنه شاب وحرام أن يُسجن.
قال أبي بصوت غاضب لم أتوقعه منه:
ـ إنه من المعادين للسلطة.
نظرت إلى ملامحه جيداً. الصورة تبدو قديمة، لأن مظهره يدل على ذلك. كانت عيناه براقتين وذكيتين. فمه يبدو صغيراً، بينما أنفه يبدو غير منسجمٍ مع تقاطيعه الحلوة.
هل هذا شيء جديد كي أعود وأكتب عنه. أنا التي صمتت كل هذه المدة التي تزوجت فيها ابنة خالتي، وأحيل فيها أبي إلى التقاعد، ورزق أخي بطفل أسماه باسم لم يعجبني؟...
12 كانون الثاني 1966
مر شرطيان من أمام النافذة. هذا المنظر أصبح اعتيادياً منذ اليوم الذي رأيت فيه تلك الصورة. السماء مغيمة أتوقع أن يسقط المطر بعد حين. نظرت بأسى إلى الحظيرة التي أصبحت خالية بعد مقتل الحصان. دقت الساعة الجدارية السابعة مساء. تمددت على السرير كعادتي. في الشتاء نتعشى مبكرين ثم يأوي الكل إلى غرفته.
نادتني والدتي لمشاهدة فيلم السهرة. فلم أهتم. عاودني الشعور بالفراغ. أحسست بتثاقل في رأسي، وأغمضت عيني.
الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. لقد غفوت ست ساعات. ونهضت. المطر يسقط خارج النافذة، وهذا ما دعاني إلى فتح النافذة وترطيب يدي بالمطرثم مسح وجهي به. ومنحت عنقي ووجهي له. كان رقيقاً كأصابع رجل متمرس في المداعبة.
رأيت شيئاً يقف تحت نافذتي. ولا أدري كيف حملت المصباح الذي كان لهبه يرتعش. كان المطر قد خف نوعاً ما. ورأيت رجلاً محتمياً بالجدار، وبجرأة لم أعهدها في نفسي رفعت المصباح في وجهه. عرفته. أنا التي لم تعرف إلا الأشياء المعادة. كان هو صاحب الوجه الجميل والأنف القبيح. حدق فيّ قليلاً ثم ابتسم، أو حاول أن يبتسم بشحوب لكنه فشل في ذلك. أغلب الظن أنه كان خائفاً. قلت له: لن أشي بك. ورجعت.
بدا كل شيء كالحلم. كيف خرجت وحدقت فيه دون خوف، ووعدته أن أحفظه سراً في صدري. كيف حدث كل هذا؟ هل هناك أمل أن يكون لدي أشياء مبهجة؟ لا أدري..
14 كانون الثاني 1966.
ببساطة أقول أنني تغيرت. لم أقل له شيئاً. فقد وعدته. أجل تغيرت. منذ يومين وأنا أتمنى أن أراه. وأتمنى أن لا أتبادل نفس الكلمات مع أمي. أريد أن أقول لها بأنني تغيرت. أصبحت في
ذاكرتي صورة رجل، ليكن من يكون الساعة تجاوزت منتصف الليل. فتحت النافذة. غمرتني الظلمة، ورأيته في نفس المكان. حملت المصباح. ورأيته، لكنه ابتسم لي هذه المرة بحيوية ونجح هذه المرة في ذلك.
قال: جئت كي أشكرك. لقد خفت أن تشي بي. لكنني الآن أثق بك.
قلت: لماذا تثق بي؟
قال: لست أدري. لا أخفي عليك بأنني حذر ولكنني منذ اليوم لن أمارسه معك.
فرحت من أعماقي. كلانا وحيد. ورأيته يدخن. كان يبدو مضحكاً في ذلك.
قلت له: ألا تنهكك حياة المطاردة هذه. ألا يكون السجن أحياناً أحسن من حياة التخفي والمطاردة؟
نظر في عيني بعمق ثم تنفس بحسرة حقيقية.
ـ رغم متاعبي الحالية إلا أن حريتي أثمن من أن أُعرضها للسجن بين أربعة جدران يطل علي من قضبانها حارس كي يطمئن أن الصيد في مكانه. حريتي هي وجودي.
وخجلت من نفسي. وددت لو لم أطرح عليه هذا السؤال. وقف للحظات ثم ابتعد عني قليلاً:
ـ المكان هادئ وخال هنا. لن يجدني أحد.
عدت إلى فراشي. أطفأت الضوء. لكنه بقي في عيني وذاكرتي. وأخيراً أصبح لي فرح.
30 كانون الثاني 1966
اليوم تحدثوا عنه. قالوا: وحش، مخرب، مدمن مخدرات. لكنني لم أصدقهم. لم أقل : إنه ليس وحشاً، فهو يكتفي بالنظر إلى عيني ثم ينادي اسمي كالصلاة. لم ينادني هكذا أحد سواه. ليس مخرباً...إنه يبني في داخلي عالماً رائعاً، ويكلمني عن عالم جديد بأسماء وكلمات لم أسمعها. إنه يبنيني. إنه لا يدمن المخدرات، لكنه يدمنني أنا. أنا حشيشته المفضلة.
2 شباط 1967
اليوم ذهب والدي كي يبيت في بيت عمي لأن صحته سيئة. ونامت أمي مبكرة. وزرعته في غرفتي. حدقت فيه طويلاً. ضحك وقال: أنا جائع. وأكلنا في أطباق جديدة نحتفظ بها للضيوف. أكلنا بنهم. وتذكرت حصان العشب الأخضر وتهيجي كي أغسله.
قلت له: هل تريد أن تستحم؟
اندهش، فهذا شيء لم يكن يتوقعه. نعم. قال وابتسم. قبضت على أصابعه. وأدخلته الحمام. كان عارياً أمامي.
غسلته. وتصرف معي كطفل عاقل. لم يمد يده إليّ. وتمنيت لو فعل.
شربنا الشاي معاً. قال: هذه أروع ليلة في حياتي. ونظر إلي بحب كبير. أمسك بيدي، وقبل أصابعي عدة مرات وهو يردد: أنت الآن الفرح الحقيقي في حياتي. وبجسارة قبلته من شفتيه. اندهش وكأنه لم يتوقع مني ذلك.
ـ لماذا تندهش يا عزيزي. إنني أحبك..
وضمني إلى صدره، ضغطني، صرت بحجم كفه الذي يعيد تكويني.
1968.......................
1969.......................
1970.......................
1971.......................
ملاحظة:
قررت الكف عن كتابة (سنوات البكارة) في حياتي لأنني أصبحت أعيش كل شيء........
أغلقت الدفتر المترب الذي عثر عليه ابني في خرائب منزل مهجور يقع قرب منزلنا الجديد، ويقال عن هذا البيت الخرب، إنه منزل مشؤوم، عاشت فيه امرأة مجنونة، قضت عمرها تعيش في عالم من الوهم، كان الخيال خلاله أقرب إليها من حبل الوريد
فصل الأول من الكتاب الممنوع من التداول في العراق وبعض الدول العربية للكاتب د. شاكر الحاج مخلفt
التقرير السري للمجرم – بلير – عن اسلحة العراق المزعومة
أكتب عن تقارير المخابرات الأمريكية والبريطانية المتعلقة بامتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل المزعومة والتي تم تسريبها لوسائل الإعلام ولشخصيات متنفذة ...
المقدمة
حزب الحرب الذي اعتمد فلسفة نشر الدمار والفوضى والقتل ومنح الإرهاب الفرصة الثمينة لكي ينمو بشكل كبير في منطقة الشرق الأوسط وبالذات في بلاد الرافدين ؛ حزب المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الذي صار رهينة خططه الفاشلة ونظرته القصيرة ؛ بدأ يدرك بوضوح تام أنه يسير نحو منصة الفشل الذريع وخسارة الحرب التي راهن عليها بعقل مغلق ، الذين شرعوا قانون غزو العراق الآن يخسرون الحرب داخل الولايات المتحدة نفسها ، شعب الولايات المتحدة صبر كثيرا على تلك الأكاذيب التي قادت الجيش والشعب معه إلى محرقة لا يريدها ، القيادات الثقافية والسياسية ورجال الحكومة غير المرتبطون بذلك التهريج الرخيص ؛ يقفون بوضوح إلى جانب مصالح بلادهم وسمعتها في المحافل الدولية ، ولا يقبلون أبداً أن يكونوا أدوات رخيصة بيد حفنة من الذين تسيدوا القرار ومارسوا الكذب الذي كشفته المؤسسات الأمريكية النزيهة قبل غيرها ، أن العالم لا يحفل لخطاب يلقيه – شيراك – أو – بوتين – أو من سار على نهجهم الانتهازي الرخيص ، ولكن يلتهب إعجابا وتقديرا للمواقف الشجاعة والقوية والمبدئية والشريفة التي تصدر من أعضاء الكونغرس الأمريكي وهم يعارضون بشدة أن تستمر بلادهم في الانزلاق إلى أعماق المستنقع العراقي ، أنه النهج الإنساني المعارض والمسؤول ، وهو يمثل صرخة احتجاج ؛ هي بمثابة الخط الأحمر الذي يتم التحذير بشدة من تجاوزه ..
أنني أطلع على ما يكتب وينشر في صحف عربية وفي محطات تلفزة مسيسة وكاذبة تصور الحالة الأمريكية على أنها حالة عدوانية مطلقة وتوصم الشعب الأمريكي بالهمجية والشر ، تلك المقالات هي صورة مطابقة للذين كتبوها ، هنا في الولايات المتحدة الوضع مختلف تماماً وكما أراه وبشكل محايد هو الأقرب إلى صورة الوعي ، خلافاً لحالة الكذب والرياء المطلقة هناك ، الأنظمة الديكتاتورية العاهرة تسحق الشعوب هناك وتنافح كذباً بالحديث عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ، وهي تقمع أي اتجاه يدعوّ للاعتراض على الحرب ، بينما في الولايات المتحدة تستهدف الجماهير الحكومة وشخص الرئيس وليس أدل على ذلك المظاهرات وحملات الاحتجاج والتصريحات التي يطلقها نخبة من رجال السياسة والثقافة والصحافة والفن أيضاً ، هذه البلاد العظيمة تماما بما تملك من رؤى وإمكانات لها الحق في أن تسود ولكن ليس لها الحق في استخدام الأكاذيب لتسويق الحرب والعدوان على الشعوب المستضعفة ، نحن نريدها حالة عون وتنمية لتلك المجتمعات المبتلية بالتخلف والفقر والديكتاتورية ، وهي قادرة على حسم تلك المشاكل إذا توفرت النوايا الصادقة والجريئة ، أن الوقوف مع شعوب العالم يعطي للولايات المتحدة ولشعبها قدراً كبيراً من الاحترام و يعمل على تقوية العلاقة التي تتعرض للتلاشي بتأثير السياسات الخاطئة التي تنتهجها القيادات السياسية المتعاقبة على حكم الولايات المتحدة ..
الكثير من المقالات والدراسات وكذلك التصريحات التي تنشر حالياً داخل الولايات المتحدة تنبه وتحذر بشدة من الهزيمة العسكرية القاسية التي بدأت علاماتها تلوح في الأفق ، الباعث على ذلك الاعتقاد هو تزايد حجم عمليات المقاومة العراقية المسلحة والارتفاع الملحوظ في حجم الخسائر البشرية والاقتصادية في الجانب الأمريكي ، وكل ذلك من أجل حرب متواصلة ؛ تعتبرها شعوب العالم – حرب غير شرعية – وغير مبررة إطلاقا ، وقد قادتها الولايات المتحدة ومعها بريطانيا ودول التحالف الأخرى على خلفية ملفات أسلحة كاذبة مزوّرة ...
في الجانب اللوجستي يبدو العطب يميل إلى التوسع عندما يتعلق الأمر بانتشار واسع فوق الأراضي العراقية للقوات الأمريكية التي عليها أن تؤمن خطوط إمداداتها بشكل محكم يجنبها القتل والوقوع في مصيدة المقاومة العراقية ، وبينما تتعرض القوات الأمريكية يومياً إلى القتل والاستهداف فأن القيادة الأمريكية تلوذ بالعناد والمكابرة معرضة أرواح الآلاف من أبناء الشعبين الأمريكي – العراقي إلى الموت وهي تهرب إلى الأمام من خلال إطلاق جملة من البيانات والخطابات والتصريحات الجوفاء التي لا تقدم أي حلّ للحرب المستمرة ..
الآن في الولايات المتحدة يزداد وعي الشعب بأن تلك الحرب – حرب عبثية – تكاليفها باهظة ، وقد مكنت الإرهاب من النموّ بشكل واضح كما ازدادت قاعدته وصارت من القوة في التحدي والمواجهة ، وعلى العكس مما كان يرّوج له الرئيس – جورج دبليو بوش – وكما نرى أن خطر المجموعات التي تصفها التقارير الرسمية الأمريكية بالإرهابية صار خطرها يمتد خارج أرض العراق ، ولم تسلم منه أنظمة ودول حليفة للولايات المتحدة الأمريكية منها أنظمة الأردن والسعودية وبريطانيا ..
في كتاب – الخط الأحمر – الخطاب المعارض للحرب المتواصلة في العراق وكذلك للحروب القادمة ؛ التي ستتمخض عن الصراع الدائر هناك ، أحاول من خلال الوثائق المتوفرة توضيح قاعدة الذي جرى وما سيحدث لاحقاً ...
______________ ديفيد كيلي ....
الموت وراء الحجاب
في البرنامج المتلفز الذي سجلته هيئة الإذاعة البريطانية مع خبير الأسلحة البريطاني – ديفيد كيلي – والذي وضع في المدة الزمنية للحوار الذي تم ّ تسجيله معه أنشوطة الموت حول رقبته ، نشر معلومات تتعارض كلياً مع الملف الكاذب الذي تبناه – توني بلير وحكومته وفيما بعد الولايات المتحدة وبقية دول العدوان التي ساهمت في الحرب ضد العراق ، في ذلك الحوار الذي توغل نحو أعماق الحقيقة وضعنا ذلك الرجل الخطير في بداية نسج شبكة الأكاذيب المرعبة عن إمكانات العراق التسليحية ، كانت كذبة صغيرة وبسيطة ؛ لكنها تطورت فيما بعد لتصبح كذبة هائلة ، صارت أرضية صالحة لحرب كبيرة مدمرة ، قاسية جداً على الإطراف المشاركة فيها ، في بداية تلك الأكذوبة قال " ديفيد كيلي " : " أن صدام حسين كما يبدو قادراً على تطوير أسلحة دمار شامل في غضون أيام أو أسابيع ...!!؟ " ليس من باب التخمين أطلق ذلك التصريح الخطير بل هو قال في مناسبات كثيرة ، أنه يروج لحقيقة مطلقة ، أستند عليها ويضيف " خبير الأسلحة البريطاني – كيلي – " أمتلك معلومات وتقارير عن العراق سرّية للغاية " وهو يشير بذلك إلى التقارير والمعلومات التي زودته بها المخابرات البريطانية والأمريكية وفق حالة التفاهم والعمل ضد العدو المشترك – العراق - ذلك الرأي الذي روّجه – كيلي – ويبدو الآن مجرد أكذوبة تافهة ، وقد استهجنتها الكثير من الدوائر السياسية في بريطانيا والولايات المتحدة ، وجدته يتعارض مع الإدعاء المطلق الوارد في ملفات محررة سبقت ذلك التصريح ، مثبت في ملفات الحكومة البريطانية والذي يقول : " أن تخطيط صدام حسين العسكري لبعض أسلحة الدمار الشامل العراقية يسمح له بشكل مؤكد أن تكون تلك الأسلحة جاهزة للإطلاق في غضون 45 دقيقة ضد أهداف في بريطانيا والولايات المتحدة ودول أخرى ..؟!!"..
تلك الادعاءات تطابق تماماً ما ذهب إليه رئيس وزراء بريطانيا توني بلير في مقابلة سجلت معه بعد عرضه لملفات أسلحة الدمار الشامل المزعومة في إحدى جلسات البرلمان البريطاني ..
- توني بلير- صانع ملف أسلحة الدمار الشامل المزعومة
لم يتوقف – كيلي – عند كذبة صغيرة واحدة بل نسج العديد من الأكاذيب ، ومنها أنه كان يرى صدام حسين يمثل تهديداً مباشراً ، وهو يعلن مواقف متشددة ، كما يصف أسلحة العراق – أسلحة التدمير الشامل – التي ظهرت فيما بعد أنها غير موجودة ، هو يقول على النحو التالي : " حتى إذا لم تكن هذه الأسلحة جاهزة بالفعل اليوم ، فإن صدام حسين لديه القدرة على تجهيزها ونشرها في غضون أيام وأسابيع ".. مرة أخرى هو ينغمس في مستنقع الكذب وذلك عندما أندفع يتحدث عن أسلحة صدام حسين – البايلوجية – والتي وصفها " بأنها تشكل تهديداً حقيقياً على الدول المجاورة .. " قال : أنني أتحدث عن إيران وإسرائيل ، ومن المؤكد أن صدام حسين بإمكانه استعمال هذه الأسلحة ضدهم ، فهو ليس بحاجة إلى مخزون احتياطي كبير كي يكون له تأثير عسكري كبير .."
اختارت المخابرات البريطانية خبير الأسلحة " ديفيد كيلي – اليهودي الانتماء " والذي عمل معها ردحاً من الزمن كأحد أهم أدوات المواجهة في الترويج والتحضير للحرب الإعلامية التي سبقت الحرب العسكرية ، وفي تتبع الحلقات الموثقة عن جهود كيلي في هذا الاتجاه نجد أن موقفه العلني مؤيداً وبشكل كامل لموقف حكومة بلير بل يكاد يكون صوتها القوي والمعبر عن خططها السرية ، فلماذا تمّ إرساله خلف الحجاب – أي وضعه في سلة القتل والموت ..؟ ، هل لأنه أكتشف أن الحكومة البريطانية اعتمدت على معلومات وتقارير أخرى لم يكن يعلم عن تفاصيلها ..؟ ..
في الزمن الذي تبع تلك المواقف نجد أن – كيلي – يعلن عن انتقاداته لحكومة بلير ، وقد سلط بعض انتقاداته لأجزاء كثيرة من ذلك الملف الذي كان متحمساً للترويج له رئيس الوزراء – توني بلير – الذي لم يتوقف لحظة من التحدث عنه واعتباره من التقارير الصادقة والموثقة والمقدسة أيضاً ، وقد وجد كيلي أن رئيس وزراء بريطانيا قد عمد بإصرار إلى إخفاء الكثير من المعلومات المهمة التي وردت في الملف الموثق ، في أعقاب ذلك الموقف الجديد أطلق – كيلي – تصريحاً آخر يدور في ذات الفضاء ، عندما قال : " ان صدام حسين لازالت لديه القدرة على تطوير أسلحة دمار شامل ، ولكنه كما أعتقد لا يشكل التهديد العسكري والستراتيجي الذي شكله وجوده في الفترة التي سبقت حرب الخليج الأولى "
يتبع
في المقال القادم - ماذا قال ديفيد كيلي في مواجهة لجنة التحقيق ولماذا صدرت عنه اقوال متناقضةبشأن اسلحة الدمار الشامل العراقية
المجرم الإرهابي الأول - توني بلير - دمية محترقة في شوارع لندن
_________________
ننشر الفصل الأول من الكتاب الذي اعلنا عنه وسنواصل نشر الفصول الأخرى ليطلع أبناء العراق والعرب وكل الشرفاء في العالم على حجم الأكاذيب والتزييف والتآمر الذي نسجه الأعداء والعملاء ضد شعب العراق - الكتاب الذي ينشر منع من التداول في العراق وبعض الدول العربية ونحن نوفر الفرصة للإطلاع عليه
.مرايا الروح علي جعفر العلاق
شجر أخرس
أم مائدة
تنحني، جرداء، ما بينهما؟
أم رماد
يتنامى:
- هل هما
حقا هما؟
مرة
كان عراء المائدة
غائما،
كان فضاء المائدة
شجرا من لغة
ممطرة،
رجلا،وامرأة
متقدة..
مضيا،
أعني: مضينا
لم يعد غير رماد عراء
عالقين
في مرايا الروح، أو بين
اليدين
لم يعد غير صدى:
-كيف أنتهينا؟
لم يعد بستاننا الريان
ريانا، ولا جمر يدينا
كيف؟
أعني: أين؟
بل أعني: متى
كنا التقينا؟
.مدينة ترسم أيامها الأخيرة شعر محمد جابر نبهان
كلُّ شَيءٍ مُعَدٌ هنا للرحيلْ :
شارعٌ لا يؤدي إلى آخرٍ /
والوجوهُ ..
تودِّعُ أحلامها في رُكامِ المكانِ /
المقاهي .. /
رجالٌ يبيعونَ أسمالهم في الطريقْ /
نسوةٌ يلتحفنَ السوادَ /
الصراخُ الطويلُ لطفلِ النهاياتِ /
كِسرةُ الجوعِ /
الجوازُ المزوَّرُ للموتِ في موتنا /
لجنةُ الأمنِ /
أصواتنا في زوايا السجونِ /
مساءٌ ثقيلٌ على أولِ النهرِ /
حارسٌ أَبكمٌ في الحدودِ /
صراعُ الجيوشِ على ضفتي جُرحنا /
شاعرٌ خائنٌ /
فاتحٌ قادمٌ من مكانٍ قصيٍ /
صورةٌ في جدارٍ عظيم
تحطِّم أحلامنا ،
تحطبُ العمرَ ،
تَهْزَأُ من طينةٍ باردة .
خريف 2000
اوتاوا – كندا
شارعٌ لا يؤدي إلى آخرٍ /
والوجوهُ ..
تودِّعُ أحلامها في رُكامِ المكانِ /
المقاهي .. /
رجالٌ يبيعونَ أسمالهم في الطريقْ /
نسوةٌ يلتحفنَ السوادَ /
الصراخُ الطويلُ لطفلِ النهاياتِ /
كِسرةُ الجوعِ /
الجوازُ المزوَّرُ للموتِ في موتنا /
لجنةُ الأمنِ /
أصواتنا في زوايا السجونِ /
مساءٌ ثقيلٌ على أولِ النهرِ /
حارسٌ أَبكمٌ في الحدودِ /
صراعُ الجيوشِ على ضفتي جُرحنا /
شاعرٌ خائنٌ /
فاتحٌ قادمٌ من مكانٍ قصيٍ /
صورةٌ في جدارٍ عظيم
تحطِّم أحلامنا ،
تحطبُ العمرَ ،
تَهْزَأُ من طينةٍ باردة .
خريف 2000
اوتاوا – كندا
.وحشة الشاعر عبد الكريم هدادالسويد
رغما عني ، اخاف المدن النائية
واستوحش نفسي
نائي الأوطان كرها والليل يطاردني ،
من ينحي عني لزوجة الخيبات،
وامتهان الحزن ،
رغما عني ، أبحث عن زمني وغيمة للمطر ،
في شبابيك الخريف ، أجالس كأسي ،
أسامر نفسي بنفسي ،
أحادث شمعتي ،
( يازارع البزر انكوش أزرع لنا حنه )
هبها لنا منة،
فيها ربى الجنة ،
بيدر من الريحان ،
قلبي هنا قد كان،
ألف سيجارتي بالهموم،
وأمنيات صغيرة ،
أن أدخل الوطن مرة ..
وأخيرة
.حلمان شعر " يوران سونفي " ترجمة - مجيد الكعبي
الشارع ، الأشجار
تتيه في هواء شفاف ،
الناس الذين يمرون ،
وجوههم تحز بياض العين ،
واجسامهم كالكتل ، في الضوء الذي يسحق الحجر ،
ظننت أني في الأرض الأخرى ،
لم أرى شيئاهناك ،كان البحر يصير الحجر غبارا غير مرئي ،
هناك لا يوجد قاع ...!
لاشيء هناك ،
الأرض الأخرى لم تكن موجودة ،
لكن في حلم آخر رأيت ،
صف الأت متشابكة
لانهائيا وأحياء يائسين ،
محترقين معابأطراف مازالت مازالت تشعر ،
رأيت أجساما بأطراف ميتة ،
وأجزاء آلات ورؤوسا ،
مثل كرات بلا أشكال
أنهم يتحركون في الأرض السمراء العارية ،
بأيدي تدفن نفسها في الطين ،
مثل عجلة،
كانوا يتكلمون لكن بلا أصوات ، إنما بضجيج ، مرتفع ، منخفض ، تحت الشمس التي تخمد ... تخمد
تتيه في هواء شفاف ،
الناس الذين يمرون ،
وجوههم تحز بياض العين ،
واجسامهم كالكتل ، في الضوء الذي يسحق الحجر ،
ظننت أني في الأرض الأخرى ،
لم أرى شيئاهناك ،كان البحر يصير الحجر غبارا غير مرئي ،
هناك لا يوجد قاع ...!
لاشيء هناك ،
الأرض الأخرى لم تكن موجودة ،
لكن في حلم آخر رأيت ،
صف الأت متشابكة
لانهائيا وأحياء يائسين ،
محترقين معابأطراف مازالت مازالت تشعر ،
رأيت أجساما بأطراف ميتة ،
وأجزاء آلات ورؤوسا ،
مثل كرات بلا أشكال
أنهم يتحركون في الأرض السمراء العارية ،
بأيدي تدفن نفسها في الطين ،
مثل عجلة،
كانوا يتكلمون لكن بلا أصوات ، إنما بضجيج ، مرتفع ، منخفض ، تحت الشمس التي تخمد ... تخمد
أنا وحدي قصيدة للشاعرة الكبيرة نازك الملائكة
كان ليل ، كانت الانجم لغزا لايحل ،
كان في روحي شيء صاغه الصمت الممل ،
كان في حسي تحذير ووعي مضمحل
كان في الليل جمود لا يطاق
كانت الظلمة أسرار تراق ،
كنت وحدي ، لم يكن يتبع خطوي غير ظلي ،
أنا وحدي ، أنا والليل الشتائي ...وظلي ،
- 2 -
لم اكن أحلم لكن كان في عيني شيء
لم اكن ابسم لكن كان في روحي ضوء
لم أكن أبكي ، ولكن كان في نفسي نوء
مربي تذكار شيء لا يحد
بعض شيء ماله قبل وبعد
ربما كان خيالا صاغه فكري وليلي
وتلفت ، ولكن لم اقابل غير ظلي
- 3 -
كان صمت راكد حولي كصمت الابدية
ماتت الأطيارأو نامت بأعشاش خفية
لم يكن ينطق حتى الرغبات الآدمية
غير صوت رن في سمعي ، وغابا
لحظة لم ادرحتى اين غابا
آه لو ادركت من ألقاه في الصمت الممل
أتراني لم أكن امشي أنا وحدي وظلي
-4 -
كانت الظلمة تمتد إلى الأفق الغريب
كل شيء مفرق فيها كقلبي ، كشحوبي
ظلمةممتدة كالوهم كالموت الرهيب
غير ضوء خافت مر بجفني
لحظة لم تدر ن ماذا كان ،عيني
كان ضوء لونه لون خيال مضمحلمرّ بي لمحا ،
وأبقاني أنا وحدي وظلي ،
- 5 -
كان في الجو الشتائي ارتعاش وجمود
جمد الظل من البرد ، وغشاه الركود
ليلة يرجف في اجوائها حتى الجليد
غير دفء طاف في قلبي الوجيع
فزت فيه من شتائي بربيع
وإذا في عمق قلبي فرحة الفجر المطل
غير أني كنت في الليل أنا وحدي وظلي
- 6 -
كان في روحي فراغ جائع كاللانهاية
كان ظلي صامتا لا لحن لارجع حكاية
باهتا يتبع مسرى خطواتي دون غاية
غير كاس عبرت حين صرخت
قطرة واحدة ثم ارتويت
أتراه كان اكذوبة إحساسي المضل
أو ماكنت أنا وحدي مع الليل وظلي
- 7 -
كان قلبي متعبا يسكنه حزن فظيع
رقصت فيه وشدته الى الجرح دموع
صور في عمقه يصبغ مرآها النجيع
كان... لكن يدا مرت عليه
حملت بعض تحاياها اليه
باركت آلامه السوداء ، كانت يد طفل
أي طفل ، لم يكن في الليل غيري
غيرظلي
كان في روحي شيء صاغه الصمت الممل ،
كان في حسي تحذير ووعي مضمحل
كان في الليل جمود لا يطاق
كانت الظلمة أسرار تراق ،
كنت وحدي ، لم يكن يتبع خطوي غير ظلي ،
أنا وحدي ، أنا والليل الشتائي ...وظلي ،
- 2 -
لم اكن أحلم لكن كان في عيني شيء
لم اكن ابسم لكن كان في روحي ضوء
لم أكن أبكي ، ولكن كان في نفسي نوء
مربي تذكار شيء لا يحد
بعض شيء ماله قبل وبعد
ربما كان خيالا صاغه فكري وليلي
وتلفت ، ولكن لم اقابل غير ظلي
- 3 -
كان صمت راكد حولي كصمت الابدية
ماتت الأطيارأو نامت بأعشاش خفية
لم يكن ينطق حتى الرغبات الآدمية
غير صوت رن في سمعي ، وغابا
لحظة لم ادرحتى اين غابا
آه لو ادركت من ألقاه في الصمت الممل
أتراني لم أكن امشي أنا وحدي وظلي
-4 -
كانت الظلمة تمتد إلى الأفق الغريب
كل شيء مفرق فيها كقلبي ، كشحوبي
ظلمةممتدة كالوهم كالموت الرهيب
غير ضوء خافت مر بجفني
لحظة لم تدر ن ماذا كان ،عيني
كان ضوء لونه لون خيال مضمحلمرّ بي لمحا ،
وأبقاني أنا وحدي وظلي ،
- 5 -
كان في الجو الشتائي ارتعاش وجمود
جمد الظل من البرد ، وغشاه الركود
ليلة يرجف في اجوائها حتى الجليد
غير دفء طاف في قلبي الوجيع
فزت فيه من شتائي بربيع
وإذا في عمق قلبي فرحة الفجر المطل
غير أني كنت في الليل أنا وحدي وظلي
- 6 -
كان في روحي فراغ جائع كاللانهاية
كان ظلي صامتا لا لحن لارجع حكاية
باهتا يتبع مسرى خطواتي دون غاية
غير كاس عبرت حين صرخت
قطرة واحدة ثم ارتويت
أتراه كان اكذوبة إحساسي المضل
أو ماكنت أنا وحدي مع الليل وظلي
- 7 -
كان قلبي متعبا يسكنه حزن فظيع
رقصت فيه وشدته الى الجرح دموع
صور في عمقه يصبغ مرآها النجيع
كان... لكن يدا مرت عليه
حملت بعض تحاياها اليه
باركت آلامه السوداء ، كانت يد طفل
أي طفل ، لم يكن في الليل غيري
غيرظلي
· ولما أصبح الصباح للشاعر سامي العامري - المانيا
اناس مترفون
يضطجعون على أرائك طويلة
كصبر أيوب
ما أن حصلت غارة جوية
حتى كرس لحمايتهم
خمسون ملجأ
ولما أصبح الصباح
وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح
كان نصف المدينة
حطاما ينعش
قوة الصحف
- غثيان -
وطني ياسرمن رأى
أو شاب من رأى
شوق لا اسم له يشدني اليك
ولكني أعرف ان عدت اليك
فستشرفني بحذاء من فوق
وزجاجة من تحت
ومع الآذان
تقتادني الىساحة خالية من الأغصان
حيث كل العصافير
تبني أعشاشها
من رصاصات الرحمة
- الشمس بأشكال إهليليجي -
لم تعد الشمس طائرة ورقية
وخصاما لطفلين صبحا
على لعبة او هدية
مالها اصبحت ناسكة..؟
من هنا يبدأ الجرح
يأتي الجواب
بحرقة طفل خبير
إذا الحرب هبت بظلماتها بغتة
سترى الشمس- لن تأتي - لا تأتي
إلا على موجة منهكة
مثل اهليج
زورقا كان أم قلب مانكو
وفي كل حال
هي التهلكة
يضطجعون على أرائك طويلة
كصبر أيوب
ما أن حصلت غارة جوية
حتى كرس لحمايتهم
خمسون ملجأ
ولما أصبح الصباح
وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح
كان نصف المدينة
حطاما ينعش
قوة الصحف
- غثيان -
وطني ياسرمن رأى
أو شاب من رأى
شوق لا اسم له يشدني اليك
ولكني أعرف ان عدت اليك
فستشرفني بحذاء من فوق
وزجاجة من تحت
ومع الآذان
تقتادني الىساحة خالية من الأغصان
حيث كل العصافير
تبني أعشاشها
من رصاصات الرحمة
- الشمس بأشكال إهليليجي -
لم تعد الشمس طائرة ورقية
وخصاما لطفلين صبحا
على لعبة او هدية
مالها اصبحت ناسكة..؟
من هنا يبدأ الجرح
يأتي الجواب
بحرقة طفل خبير
إذا الحرب هبت بظلماتها بغتة
سترى الشمس- لن تأتي - لا تأتي
إلا على موجة منهكة
مثل اهليج
زورقا كان أم قلب مانكو
وفي كل حال
هي التهلكة
رواية ميميد الناحل .. ليشار كمال حب الأرض و المواجهة الفردية لقوى الإقطاع والاستغلال د. شاكر الحاج مخلف
ميميد الناحل… هي قصيدة تركية رائعة أنشدها حفاة الأرض المنكوبة وكتبها نثراً الكاتب الكبير يشار كمال ، وهي الرواية التركية الأولى التي
ترجمت إلى جميع لغات العالم ، تدور أحداثها على هضبة من مخارم طوروس وبالتحديد في قرية يملكها الإقطاعي سيئ الصيت " آغا عبدي " في تلك القرية كان يعيش يافع هو " ميميد " الملقب بالناحل، وكانت جميع الأراضي تعود لذلك الإقطاعي ، وكان رجال القرية يزرعونها عراة الأرجل وهم يسيرون في أرض مملوءة بالعوسج، وكان في النتيجة ثلثا المحصول يعود للآغا، وكان الإرهاب والبطش والعمل القسري يسود في تلك الأنحاء ، لقد فرّ ميميد وأستعيد ثم فرّ من جديد مع حبيبته " حتشه " والتي كان الآغا يطمح أن يزوجها بابن أخيه، وعندما طورد ميميد الناحل " محمد الناحل " أندفع ليقتل أبن أخ عبدي آغا وكذلك تمكن من جرح عبدي آغا نفسه ، ولم يعد أمامه من خيار فصار قاطع طريق وأنضم إلى عصابة " دوردو المجنون " وهو قاطع طريق لاأخلاق له ، يدير عصابة تثير الرعب والخوف والدمار ، لكن ميميد يتركه بعد فترة ليشكل عصابة خاصة به ، وهكذا أصبح ميميد الناحل قاطع طريق مرموقاً وجريئاً يخشاه الأغنياء واصحاب السطوة ويحبه الفقراء وصار اسمه أسطورياً يتحدث به الناس عبر السهول والجبال في الأناضول، هذه باختصار فكرة الرواية التي كتبها يشار كمال مستنداً إلى الموروث الفلكلوري الضخم في منطقة الأناضول ، عندما ترجمت إلى اللغة الفرنسية استقطبت اهتمام النقاد هناك حتى أن بعضهم وصف يشار كمال بأنه هوميروس القرن العشرين ، وقال عنه " آلان بوسكيه " يشار كمال هو أهم روائي نعرفه الآن ، ومع انتشار الرواية تردد اسم كاتبها ضمن أسماء المرشحين لنيل جائزة نوبل ، عن ذلك الموقف يقول الكاتب " عزيز نسين ": يشار كمال روائي جيد ورواياته ممتازة، أن أدراج اسمه في لائحة المرشحين لجائزة نوبل خبر مفرح جداً " بينما يعتبر يشار كمال في مقابلة نشرت معه ترشيحه لتلك الجائزة على النحو التالي " أن لجائزة نوبل جوانب مهمة كما لها جوانبها السيئة، أنا أول أديب تركي يرشحونه لها والحقيقة أن هذا الترشيح إنما هو للأدب التركي وليس لي بالذات وأنا موقن من أن أدبنا في مستوى الفوز بها وهو يستحقها عن جدارة سواء في إبداعاته بالأمس أو اليوم " ويلتقي هذا الرأي مع التقييم الذي نشره الشاعر التركي المعاصر " أتاؤول بهرام أوغلو " الذي يقول عن الكاتب يشار كمال " : يشار كمال هو أكبر القصاصين في عصرنا الحالي، وله أسلوب متفرد يفهمه جميع أبناء الشعب على اختلاف مستويات التعليم لديهم ،وأنني أراه في نفس المستوى للشعراء ، استورياس وماركيز وبورخيس ، فهؤلاء لهم نفس أسلوب يشار كمال ذي الصبغة الشعبية والهموم التي تمثل الأرض التركية وإنسانها نشرت الرواية على شكل فصول متلاحقة في جريدة " جمهوريت " التركية الواسعة الانتشار ، ثم أعيد طبعها وذلك في العام 1955 وحصلت على جائزة فارليق التركية وطلبتها اليونسكو لإصدارها في اللغات الأجنبية وفي العام 1969 أصدر الجزء الثاني من الرواية والذي لاقى نجاحاً منقطع النظير في تركيا وخارجها..
شخصية حقيقية لقصة مشهورة
الكاتب يشار كمال في مجمل نتاجه الأدبي يكتب دون أن ينقطع عن جذوره ، فقدماه مغمورتان في أرض تركيا وبالذات في منطقة أزلية هي منطقة " جوقوراوا " حيث الطبيعة تتغير تبعاً لتغيرات المرحلة التاريخية ، يقول في مذكراته عن تلك المنطقة " لقد عشت الطبيعة في جوقوراوا أثناء ماكان الإقطاع مسيطراً فيها ، كانت آنذاك منطقة مغطاة بالغابات والأحراش والمستنقعات، كانت منطقة بيئية فريدة في تكوينها فيها آلاف الأنواع من الطيور والفراشات والزهور وأنواع من حيوانات أخرى، ولكن ما حدث بعد ذلك هو اختفاء كل هذه العناصر والكائنات دفعة واحدة وتحول هذا السهل فيما بعد إلى حقول ممتدة ، ومع تغير الطبيعة تغيرت طباع الناس أيضاً " لقد تحولت تلك المنطقة إلى مسرح أحداث لقصص وروايات يشار كمال وغيره من الكتاب ، كان يرى ثمة مساحة حية يتعامل معها بما فيها من كائنات تنبض بالحياة ، وهذا نلمسه بوضوح في روايته الموسومة " ميميد الناحل " حيث تجسد أحداث الصراع المسلح غير المنظم للفلاحين الأتراك خلال السنوات العشر الأولى من عمر الجمهورية التركية ، ومادة الرواية وأحداثها مستقاة من الحياة وليست من صنع خيال الكاتب ، وأذا أنتبه القارئ إلى الصفحات الأولى من الرواية وتمعن فيها جيداً يجد الكاتب يؤكد أنه خلال سنوات 1925- 1933 كان يجول في جبال طوروس ما يزيد عن مائة وخمسين ثائراً وبضمنهم ميميد الناحل التي تدور حوله أحداث الرواية ، ويذكر الذين كتبوا عن سيرة حياة الكاتب يشار كمال، أن بيت أهله كان ملجأً للمسلحين من الأتراك الذين كانت لهم أفكار بدائية تتعارض مع السلطة القائمة آنذاك ومن جملة مطالبهم تحسين ظروف الحياة وصولاً إلى شروط أفضل لحكمهم تطورت فيما بعد لتتحول إلى مطالبة بالحكم الذاتي وبشيء من الاستقلال من خلال حركات تمرد وعصيان مسلح صار يتعاظم ، أن اسم ميميد الناحل هو لثائر تركي شعبي معروف يتذكره يشار كمال الذي التقاه في طفولته وظلت صورته محفورة في ذاكرته يمثل دائما أنموذجا للبطل الذي يقاوم الاضطهاد مقاومة شخصية تقود إلى مقاومة عفوية تقود الآخرين نحو أهداف ثابتة لكنها توظف ضمن حالات المراحل المتغيرة ،تلك تمثل أبرز حالات وأشكال الرفض التي كانت منتشرة بين الفلاحين الأتراك خلال القرون الوسطى ، كان آنذاك تمرد الفلاحين الأتراك موجهاً ضد الوجود الإقطاعي ومظاهر التعسف وبعد ذلك تطور ليشكل حالة مواجهة تظهر وتختفي بهدف تحقيق الاستقلال الذاتي وقد وجد له صوتاً وصدى وانعكاساً فنياً في العديد من الروايات والقصص والشعر والسينما كما هي الحال في أفلام الكاتب والمخرج " يلماز غونيه " وكانت الحركة الثورية التي تهاجم الإقطاع تتخذ لها شعارات وطنية ، ذلك التعارض المتنامي أوجد للدولة والمجتمع مشاكل معقدة ظلت دون حل جذري مبضعها الوحيد القمع والحرب والمطاردة والاعتقال والإعدام ومصادرة الحقوق ، كل ذلك أنعكس بشكل عميق في رواية يشار كمال " ميميد الناحل " وأيضاً في بقية مؤلفاته اللاحقة ..
الطبيعة تصنع الأحداث
كل شيء في كتابات يشار كمال نجده يدور في عوالم جوقوراوا وكل شيء أيضاً يترشح من خلال موشور واقعي دقيق ، أن ما كتبه يمثل بحق أساطير تعود بالأصل للشعب التركي ، لكن جانباً علمياً أنتوغرافياً نقدياً يكمن في تلك -
الكتابات ، وهناك من يرى تشابهاً بينه وبين الكاتب الفرنسي " آميل زولا " ولكني لا أرى ذلك التشابه مطلقاً إلا
أذا تم تجريد نتاجه من الموقف الثوري والهم الإنساني المتصاعد بسبب الطغيان وحالات الاستلاب والقمع ، وهذه العوامل لانجدها في نتاج " زولا " الذي قدم في مجمل رواياته أجواء الطبقة البرجوازية ومشاكلها التي لا تتعدى الحب والجنس والحقد الشخصي والتحايل والتآمر ، الأمر مختلف تماماً لدى يشار كمال في العقد المدفوعة إلى الأعماق وهي تتحكم بقيم الحياة وتدفع الصراع بتوتر دائم إلى حافتها المتجددة ، في رواية ميميد الناحل يتناول الكاتب تفصيلات الحياة في القرية بأبعادها المختلفة وكأن ذلك السهل مرجل يلقي بتفاصيل الأحداث، أن للطبيعة قيمة أخرى لدى يشار كمال، فهو يؤكد ذلك على النحو الآتي "البيئة التي تدور فيها الأحداث ليست مساحة جغرافية خالية وجامدة ، أنها سهل منبسط فسيح على شكل مستنقعات وضفاف مكسوة بالأشجار والأحراش فيها مياه جارية وبحار هائلة منتصبة ونقاء ممتد ورعب تمثله الحمى والمرض وعظام متوجعة وعرق بشري ينضح من اثر الكد المتواصل سيارات وتراكتورات ومكائن حصاد ومخلوقات خرافية عاجزة عن الكلام لكنها قادرة على الصراخ ، لها أياد من القطن وأجساد من الحرير وشعر من البريسم ،قبعات حصير وثياب بيضاء وعيون سوداء ، أنها ليست أرض قاحلة بل وحش أخضر يهبط من السماء بحفيف آسر مثل الغيم " داخل هذا الإطار الخارق الذي يحافظ على كل الموجودات في جوقوراوا ويبقيها طرية نابضة بالحياة ، في تلك البيئة تجري أحداث قصص يشار كمال ، أن عالم القرية وموجداتها خاضع كغيره للتغيير والتبدل المستمر حيث يولد الإنسان والطبيعة على السواء ويبقيان في حركة تغير وتبدل دائم ، أن القرية والمدينة بيئتان متلاحمتان كل منهما يترابط مع الآخر يمده بأسباب البقاء ويعيش من خلاله التطور والديمومة الأبدية ، أن الكثير من العلماء والمفكرين ينظرون إلى أدب القرية على أنه باق ومستمر وشرعي والسبب يعود إلى أن حياة الإنسان متوقفة كثيراً على نشاط القرية وفعلها المؤثر ، وأنا أرى أن هجرة مهمة قادمة لا محالة وهي تتمثل بالهجرة والنزوح من المدن إلى القرى في دول العالم قاطبة ، في الولايات المتحدة بدأت هذه الهجرة المعاكسة للخروج من دوامة التلوث ورتابة الحياة اليومية ، ومستقبل التطور الحضاري والتقني للقرية سيكون واضحاً ومؤثراً في السنوات القادمة بفعل هجرة العقول المتعلمة إلى تلك الفضاءات، يقول يشار كمال " أن عناصر الطبيعة تحوز مني على اهتمام متقارب لاهتمامي بالإنسان أن لم يكن على ذات المستوى وبالطبع أنا لا أدعي اكتشاف هذه العلاقة القائمة منذ الأزل بين الإنسان والطبيعة ولكني واحد من أولئك الذين تناولوا الطبيعة بشكل سليم في روايات عصرنا " في روايات القرن التاسع عشر العظيمة لم تتعد الطبيعة عن كونها ديكوراً لأحداث تلك الروايات ولم يتم تطوير وتثوير علاقة الإنسان بالطبيعة إلى الحد المؤثر والفاعل في عملية المواجهة والتغيير ، ويصف الكاتب الروسي الشهير " مكسيم جوركي " تلك العلاقة على النحو التالي : الطبيعة لم تكن سارية في دم الإنسان ولم يكن الإنسان مسكونا في قلب الطبيعة وشرايينها" وبغض النظر عن تلك التعريفات والأفكار فأن الطبيعة والإنسان متممان لبعضهما وتفاعلهما يقدم صورة الحياة .
شخصيات عديدة لموضوع واحد
الموضوع الرئيسي لدى الكاتب يشار كمال دائماً يتلخص في جوهر نضال الفلاحين من أجل الحياة الحرة الكريمة -
والمواجهة التي تحدث بين قوى الإقطاع التركي والقوى المساندة له ، وأيضا هناك صور تفضح استغلال الطبقات
الأخرى للفلاحين ويتمثل ذلك بالعديد من التجار الذين تزدحم بهم رواياته وهناك شخصيات أخرى من البخلاء والمرضى والأغنياء الصغار الإرث الذين يلهثون وراء المال والذين تسيطر عليهم الخرافة وكذلك القرويون الذين يناضلون أعداء العدالة ، يصفهم الكاتب بأنهم يسكنون دوائر غامضة ومقفلة، ليس فيهم من هو سيد مصيره لهم قدرة الكلام لكن أصواتهم غامضة وخافتة ، أن كل عمل روائي ، أن كل عمل روائي أو مسرحي أو قصة قصيرة للكاتب يشار كمال أراها بمثابة ضربة عنيفة من قبضة قوية تسلط على كل ما هو مزيف وغير معقول، تلك الصدمة العنيفة توقظ الحس الإنساني الذي بدأ يخفت عند البعض تدريجياً فيشعر القارئ بنفسه وقد تغير وأثرى داخلياً بعد أن يطوي صفحات الرواية أو القصة أو المسرحية ، في تلك اللحظة يكون قلبه قد امتلأ بحكايات وأساطير شعبية حفظها منذ الصغر تتشكل من عوالم الخير والشر تلك التي توارثتها الأجيال التركية عبرّ حقب زمنية متداخلة ، يشار كمال يختار من تلك الحكايات أجملها وأقبح مافيها حتى ظنه النقاد هوميروس العصر فهو يمزج بين التاريخ والأسطورة بين الحقيقة والخيال ويعطي للإنسان موقفاً فاعلاً ويحوله إلى كيان فاعلاً ومبدعاً في صياغة الأحداث، أن أعماله ليست عملية ميكانيكية في كتابة رواية أو قصة أو مسرحية أنها في المحصلة النهائية إبداع حقيقي ينطلق من بحث وتبديل وإضافة ، قال عنه أحد النقاد " يشار كمال لا يكتفي بإدانة العصر من خلال كشف زيفه ومظالمه بل يضمن عمله سخرية سوداء قاتلة مثل " سرفانتس " وله قدرة الكتاب الروس العظام في نزوله إلى أعماق مواضيعه بحيث يجعل تلك المواضيع أكثر حيوية ولمعاناً لذلك تبقى قضية الأرض وسعادة الإنسان الموضوع الأهم الذي تنطلق منه رواياته وقصصه ومسرحياته.
محمد الناحل ، ميميد النحيل
تتوزع الأحداث في رواية " ميميد الناحل " عدة محاور، الأساسي منها مبني على الصراع القائم بين ميميد الناحل والإقطاعي مالك الأرض عبدي آغا، يبدأ الصراع في الرواية بشكل شخصي ينبع من اختلافات اجتماعية، تفاصيل حياتية ، في البداية نجده عفوياً ثم يتطور ويأخذ بالنمو ليصبح يمثل مواجهة مسلحة بين كتلتين هما الفلاحين والملاكين وكذلك شريحة الإقطاعيين وعناصر من السلطة المحلية ويأخذ محاور عدة من بينها الدفاع عن الحقوق ، ويولد ذلك الصدام لدى الفلاحين الوعي والبحث عن قوانين أكثر عدالة وأكثر أنصافاً لتقسيم الملكيات الإقطاعية والتحرر من سيطرة الاستغلال والجشع، ولن تتوقف هذه الحركة عند الرموز الصغيرة بل تمتد لتشمل ما هو أكبر ممثلاً بالملاكين الكبار من أمثال " علي صفا بك " وعلى هذا النحو يتطور ويتسع الخط الدرامي ويتشابك الصراع في الرواية وتتعرض الأحداث للعلاقات الاجتماعية في القرية ويشكل ميميد الناحل ورفاقه أنموذجا للزعيم الأكثر معرفة بالحركة الفلاحية العفوية ، بحيث ترتفع أصواتهم وأطلا قات بنادقهم مطالبة بإلغاء الملكيات الإقطاعية وكل حالات الاستغلال والجشع والدعوة إلى تحقيق مبدأ العمل الجماعي في الأرض وإلى سيادة علاقات خالية من الجشع والدعوة أيضاًإلى تحقيق مبدأ العمل الجماعي في الأرض وإلى سيادة علاقات خالية من القهر الاجتماعي والاستغلال ، في رواية ميميد الناحل يحاول يشار كمال تصوير هموم وحياة الفلاحين الفقراء الذين يسعون لتحقيق العدالة الاجتماعية وفتح -
نافذة لتحقيق المبادئ الأكثر إنصافاً لزراع الأرض ، وبما أن طبقة الفلاحين في تركيا تعاني من ظروف القهر والاستغلال وخاصة في مجالات التعليم والثقافة لذلك تغرق أحلامها في أفكار ضبابية فينحصر سلوكها في التغيير لمواجهة فئة صغيرة من المستغلين ، بينما يقع المجتمع بشكل عام تحت طائلة الاستغلال وبصور مختلفة، أن القصص التي تؤرخ لمرحلة مبكرة من ظهور الإقطاع في آسيا الصغرى ودول البلقان اعتمدت على النماذج والمحاولات الأولى في الأدب التركي مثل " خيانة ملك دايشمند و كتاب إلى سالتيك " والى جانب ذلك فأن القصة التركية التي تطورت فيما بعد الى شكل الرواية المؤثرة جداً في الوسط الاجتماعي اعتمدت كثيراً على القصص الفلكلورية والخرافات والأساطير التي كانت مهما تنوعت مضامينها وتفاصيلها فهي تحكي عن مواجهة الإنسان للقوى الخارقة وخاصة الحيوانات الأسطورية ، كما ساهمت النكتة الشعبية في إنضاج المضامين ، لقد تحولت القصص وتلك الحكايات المشبعة بالفعل العفوي الجريء والشجاع إلى ملاذ يدفع نحو المواجهة والبحث عن منصة للانتصار وسحق القوى الغاشمة المستبدة وكانت تجد مساحة من القبول والمتابعة بشكل خاص لدى الفقراء والمعدمين في القرى النائية وفي بعض الأحياء الشعبية في المدن المزدحمة وبعد ولوج مرحلة التفاعل مع الحضارة الغربية والابتعاد نوعاًما عن الإرث الإسلامي وانتقال النظام السياسي إلى الحكم الجمهوري دخل الأدب التركي مرحلة جديدة فيها مساحة من الحرية وهامش بسيط من الالتزام بقضايا الجماهير والتعبير عنها واعتماد المواجهة مع التكوينات السياسية الحاكمة باختلاف مناهجها وأطيافها ، وشهدت تلك النتاجات ولادة البطل الإيجابي في الأدب التركي عموماً وهو الرمز الصريح والعميق للشعب التركي ، ولقد سجلت مرحلة النشاط الأدبي الذي بزغ فجره في الثلاثينات من القرن المنصرم ظهور نتاجات على جانب كبير من الأهمية لشعراء وكتاب من أمثال ناظم حكمت وصباح الدين عالي وسعاد درويش حيث تمكنوا من تأسيس قاعدة قوية للأدب التركي الجديد اعتبرت فيما بعد بمثابة المنهج القوي الذي أستند عليه فعل التغيير والمواجهة، لقد خلقت تلك النتاجات الأدبية الواعية الظروف الموضوعية الملائمة لتطور الإنسان وأعطائه الفضاء الواسع لكي يحلم بالحياة الأفضل ،أن أغلب الروايات والقصص التي صدرت بعد مرحلة الثلاثينات كانت تقدم أبطالها على أنهم نمطاً ثورياً من البيئة الفلاحية أو العمالية أو الطبقة الوسطى ذات الانحياز الواضح إلى قضايا الشعب التركي ، وهكذا نجد ا، يشار كمال هو الآخر قد سار على خطى الذين سبقوه مكملاً مشوار هم الأدبي في الخلق والإبداع ومقدماً نماذج جديدة ومبتكرة من الوسط الفلاحي في رواياته ومسرحياته الكثيرة ، وقد شغلت الانتفاضة الفلاحية في قرى الأناضول حيزاً كبيراً من نتاجه ونلمس ذلك بوضوح في رواية ميميد الناحل وهو يرصد الفعل العفوي في تلك الانتفاضة التي لاتعرف الطريق الصحيح لتحقيق أهدافها الكبيرة بسبب عدم وجود نظرية وأفكار سياسية واضحة ،تلك هي تقريباً المحاور الأساسية التي تتحرك عليها أحداث الرواية ، بينما نجد المحور الثاني فيها يهتم بتسجيل وقائع حياة البطل الرئيسي وقد أتخذ قرار الثورة والعصيان ولجأ إلى المخابئ في الجبال الشاهقة والمنيعة والقرى المعزولة التي يزورها خلسة للتزود بالطعام ومتابعة أخبار الحياة الأخرى، ويعيش متخفياً يقود أتباعه المسلحين،أن يشار كمال يكشف في هذه الرواية عن معرفة دقيقة بتفاصيل أحداث التمرد المسلح في المناطق
الجبلية والقرى البعيدة وهو ينبري لكتابتها لا يخفي سعيه لنشر إشارات واضحة عن الهدف الذي يرسم من خلاله
بانو راما واقعية تمثل مقاومة الفلاحين الأتراك مع أنه يضمن تلك الوثيقة تأكيدات حازمة عن أن تلك المقاومة لاتعطي النتائج الكبيرة التي تعيد صياغة الحياة هناك وفق واقع إنساني متقدم
تفاصيل أخرى
يقول يشار كمال واصفاً موقفه الفكري والسياسي على النحو التالي " أنا إنسان يعرف إلى حد كبير معنى الحرية والأيمان بها ، ولقد أتيت إلى هذا الكون مناهضا للظلم والطغيان ويمثل نتاجي الأدبي موقفاً عملياً ومتطابقاً مع حالة نضال الإنسان التركي في هذا الاتجاه " أن أهم ما يميز قصص وروايات يشار كمال أنها مبنية على حقائق واقعية كما لو أنه تكتب لفرض حالة التوثيق بشكل محايد لبناء وقائع حقيقية وأمثلة حية نجدها في المجتمع وأن الفكرة أو المادة أو الحكاية التي يعمد إلى اختيارها يأخذها من الواقع الحياتي ومن الحياة التي جرّ بها وعرف تفاصيل المعاناة وجوانب الربح والخسارة مع انحياز كبير إلى الموقف الوطني الجماهيري ، تقدم تفاصيل رواية ميميد الناحل ضمن حركتها على مسرح أحداث الرواية " حمزة آغا " شقيق الإقطاعي المقتول والذي يمثل بحق السلف السيئ فهو بدلاً من أن يتحسس وضع الفلاحين في فترة سيطرته عليهم نجد أن أوضاعهم تبدأ تسير نحو الأسوأ ، كما يواصل الملاك الكبير" علي بيك " ذات النهج الرديء في مضايقة الفلاحين وحرمانهم من خيرات الأرض ، كل تلك التفاصيل تولد القناعة لدى ميميد الناحل بعدم جدوى المواجهة الفردية لهم ، في ظل تلك الظروف وتحت ضغط الفلاحين يواصل الناحل تصديه لقوى الإقطاع وتعتبر المواجهة الكبيرة عندما يتخذ قرار التسلل إلى المدينة بنفسه ويغتال علي صفا بيك ثم يقتل حمزة بيك في القرية وهو يعاقب بذلك الفعل مستغلي الفلاحين وينفذ ذلك الفعل اضطراريا وانتقاماً للفلاحين لذا فهو يعيش أزمة عميقة ومأساة كبيرة لأنه يدرك تماماً عدم جدوى تلك الأفعال الفردية المسلحة ضد الأفراد الممثلين للطبقة الإقطاعية في القرية التركية ، وهو بذلك يصل إلى مرحلة جديدة متطورة المفاهيم تعلن بداية ميلاد زعيم فلاحي تركي، ويظهر من الخط البياني للرواية أن ميميد الناحل أنتقل انتقالات عديدة من الفعل العفوي إلى الفعل الواعي المنظم بهدف الوصول إلى تحقيق العدالة وسعادة الإنسان ، وقد ترك الكاتب يشار كمال النهاية مفتوحة بما يشير إلى وجود مشروع روائي آخر يناقش فيه أحداثاً جديدة ، اعتبرت رواية ميميد الناحل عملاً هاماً لتصويرها وبشكل وثائقي مرحلة مهمة من حياة المجتمع الفلاحي التركي وأقترب فيها يشار كمال من مبدأ الإبداع والتماثل مع منهج الواقعية الاشتراكية في الأدب، وكانت رواية ميميد الناحل أيضاً تمثل توهجاً كبيراً للأدب التركي الحديث ، وقد كثرت في شأنها التساؤلات هل كانت رواية مغامرات أم هي ملحمة غنائية ونشيداً للمحرومين ، أن رواية ميميد الناحل هي بحق كل ذلك معاً ، تمكنت بقوة من وصف وسطاً يعود للقرون الوسطى نحن معاصروه ولكنها تبدو للوهلة الأولى لم تكتب ليقرأها أبناء وسط متقدم وحسب بقدر ما كتبت لأولئك الذين وصفهم بأنهم من الفلاحين الأميين الذين لم يكونوا على معرفة ودراية بالقراءة ليقرأوا تلك الرواية وإنما لتقرأ لهم أو لتقص عليهم في جلسات السمر حول المواقد المشتعلة في قراهم النائية ، أن جميع ماأشتملت عليه الرواية ينطوي على جميع مزايا الآداب الشفوية العظيمة، يسجل للكتاب والشعراء الأتراك أنهم تقدموا شعبهم وتعارضوا مع الأنظمة السياسية وقادوا المجتمع نحو أهداف كبيرة تشكل حلماً أزليا كالحرية والخروج من دائرة التبعية للقوى الغاشمة وأيضا العمل -
الدءوب لتغير واقع الإنسان التركي من خلال الحث على اعتماد التحولات الجذرية ، كانت مواجهة شرسة ومتواصلة دفع فيها الكتاب والشعراء أجمل أيام عمرهم محجوزين في غياهب السجون ويتعرضون يومياً لأشد صنوف التعذيب والاحتقار ، ولكنهم ظلوا يبدعون من أجل غد تركيا والإنسان في كل مكان
حــروفُ الشــوْك بين مســرح الشــوْك وحكومــات الشــوْك!
حدثنا أبو يســار الدمشــقي قال :
رأيتُ أبا زيــد الســروجي بعد الفراق ، قلت أين أنت أيها الأفاق ، وكيف حالُ الأهل والرفاق ؟ ألا زلت زبوناً للمحاكم كعهدي ، أم أنكَ تبْتَ بعدي ؟ فنظر أبو زيد نظرة ، وتأوّهَ بحســرة . قال : لا تكثر القيلَ والقال ، واحمــد ربك ذا الجلال . ولا تظنّنّ بي الظنون ، فأنا عاقل لا مجنون . وهلمّ بنا يا أبا يسار ، إلى حانة أو إلى بار ، لأروي لكَ آخر الأخبار .
مَـصّ أبو زيد من كأســه مَصّــة ، وقال بحـرقةٍ وغصّــة ، قصتي أعظمُ قصّــة ! كنت في خَطْــبٍ وبيل ، بسبب سَـــند توكيل . فمنذ تســعة أشهر بالتمام ، أرسَــلَ لي أبو حســـام ، سَــندَ توكيلٍ عام . فهو يملكُ أرضــاً في النبك ، ويريدُ بيعها بسبب الإفلاس والضنك ، وملاحقة الدائنين والبنك . وعندما أبرزت الوكالة ، إكتشفت ما أنا فيه من جهالة . فالوكالة لا تقبلُ في الخصــومة والمنازعات ، أو في بيع العقارات ، إلا بعد تصديقها من المخابرات !
إشــتريت الأكفان والحنوط ، وذهبت إلى الفرع وأنا أشعر بالقنوط . فالداخل إلى أجهزة الأمن مفقود ، والخارج منها مولـــود . ذهبت كالساعي إلى حتفه ، بيده وظلفه . وبعد الإنتظار ، جاءني ماردٌ جبار ، قال أجب بتفصيلٍ واختصار . ما علاقتك بأبي حســام ، وهو عـلاّكٌ ونمّــام ، ومعادٍ للنظام ؟ ولماذا اختارَكَ أنت بالذات ، لبيع العقارات ؟ ثم إنه أعطاني كميّــةً من الورق ، وأنا أتصَبّــبُ من العرق ، وأتلو في سِــري سورة الفلق . قال أكتب لنا ســيرَة حياتك منذ الفطام ، وما تعرفه عن أبي حســام ، هذا المارق ابن الحرام .
لم يكن أمامي من خيار ، فأنا في الحبس والحصار ، فرحت أكثر من الإستغفار . كتبت كل ما تذكرت عن هذا الصديق ، وأنا كالغريق . وبعد أن ملأت عدة صفحات ، تعاورتني الأيدي بالصفعات . وضعوني في الزنزانة ، قالوا أكتب من جديد بصدق وأمانة . ورحــتُ أكتب حتى الصباح ، معللاً النفس بالارتياح . وبقيت عندهم بضعة شــهور ، أحسُـــدُ ســكان القبور . وبعد الوساطات والشَفاعات ، ودفع ما تيَسّــرَ من الليرات . صــادروا الوكالة ، وقالوا لي : إياك والرذالة !
قلت لأبي زيــد ، أيها القريــد ، وقعت والله في الصيد . لكنني لا أرى في الأمر غرابة ، وليس فيه ما يدعو إلى الكآبــة . ألا تعلم أن الوكالة من حروف الشــوك ؟ الشين هي الشراكة ، والواو هي الوكالة ، والكاف هي الكفالة . فلماذا دخلت مســرَحَ الشــوك ، وأنت في بلد الشوك ؟ وما ذنب الحكومة ، إذا أرادت حمايتك من الشوك يا ابن اللئيمة ؟
السلطات الرشيدة في البلاد ، حريصــة على راحــة العباد . وعندما اشترطت موافقة الأمن على هذه الوثائق ، فهذا لمصلحتك أيها الآبق . لكنني أعرف أنك ناكرٌ للجميل ، وتهوى نصبَ الأحابيل . أنت تنتقد من يسهر على راحــة الناس ، لينقذهم من وجع الراس ، ومن المشاكل والإفلاس .
صــاح بي أبو زيد كالملسوع ، وطفرت من مقلتيه الدمــوع . قال : ما هذا الكلام ، ومتى دَجّــنَــكَ الحكام والظــلاّم وأبناء الحــرام ؟ الله أكبر ، هل أنت جادّ أم أنّــكَ تســخر ؟
قلت : ما هذه التهمة والفريّــة ، هل عهدتني أتكلمُ بغير الســخرية . حَــدَث معي ما حدث معك بالضبط ، فأنا من القهــر أكاد أنُـــطّ . قبل أن أغادرَ وطن المخافر بشــهور ، وكلت زوجتي ببعض الأمور . وعندما حاولت زوجتي إســتعمالَ التوكيل في مســألة ، تعرضَــت لهذه البهــدَلة . صادروا ســـند التوكيل في فرع المخابرات ، وكأنه الحشيش أو المخدرات .
قال والآن ما العمــل ، وما السبيلُ إلى الخلاص من هذا الخطب الجـلل ؟ قلت : خطــوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء ، وكُفَّ عن أكل الهــواء ، وإلا قالوا أننا عمــلاء ، أو اتهمونا بالغبــاء . هل تنتظر من الغراب المشؤوم ، أن يكون مُطرباً كأم كلثوم ؟
ثم إن أبا زيد تنهّـــد ، وما لبث أن أنشــد :
زمـــانٌ تعيـــشُ البــومُ فيـــه رَغيــدةً ويشــقى هــزارُ الأيك في الكدح والجَــد
فيالـــــك دُنيــا تُنكٍــحُ العـبْـــدَ حُــــرَّةً وتَتّخــذ الأحـرارَ مِمْـســـحة القــــــــــرد
مـصـبـاح الـغـفـري
- تتهاطل الأمطار بغزارة ب "سانت لويس" يلج توم مسكنه المتواضع و بينما يغلق مظلته يريد إيقاد المصباح (إنارة الغرفة) يظهر في جانب الغرفة المظلم شبح أحدهم. يتسمّر توم في مكانة في حين يسرع الشبح المتشح بثياب رثةخلفه ويغلق الباب..
توم: من؟ ...من تكون؟ كيف دخلت هنا؟ ماذا تريد؟
روكسي: مكانك! ... إنا أمك!
( تكشف عن وجهها )
(صمت )
توم: أدرك! مافعلته ... كان بغيضا دنيئا [صمت] لم يكون لدي خيار ؟ لم أكن أدري ما عليّ فعله ..
( روكسي تنظر إليه بحدة و هو يتضاءل يتساقط/ يتلوي/ يذوب خجلا )
بعد صمت طويل، تتخذ روكسي لنفسها مكانا للجلوس ، تخلع قبعتها لتنهمر كتلة شعرها البني مبعثرة حول كتفيها.
روكسي : ( ممسكة خصلات شعرها ) من حسن الحظ أنه لم يشب بعد!!
توم: أعلم أني وغد حقير ، لكن أقسم أن ما فعلته كان عن حسن نية ، كانت هذه الطريقة الوحيدة أمامي لأصحح الأمور ، كانت غلطة و لن أكررها ، طنننت أني أحسن صنعا.
روكسي: تتاجر بأرواح البشر عند النهر ...عن حسن نية؟!!!
لن تعامل كلبا كما عاملت أمك المسكينة!!
( سكون)
أصبحت خائرة القوى و منهكة حتي أني لم أعد أستطيع التمرد علي الإستغلال و الإضطهاد كسابق عهدي به. تعذبت طويلا حتي امتهنت الألم و أضحي الأسي أيسر عندي من فعل الغضب.
( صمت )
روكسي: لطّف الإنارة قليلا، فالمطاردون لا يحبون الضوء ، أعلم من تكون! وهذا يكفي ، دع عنك ، بل سأقوم أنا بذلك.
( صمت)
دعني أقص عليك ما حصل و سأختصر قدر الإمكان:
لم يكن السيد الذي اشتراني ظالما بل كان صالحا كعهد كبار الفلاحين ، و لو كان الأمر بيديه لأبقاني لأخدم عائلته و يريحني من شقاء الحقول، لكن زوجته أمريكية و لم تكن جميلة كفاية... فتحاملت ضدي بسرعة ، لذا أرسلوني للعمل في الحقل و لم تكتفي تلك المرأة بذلك، بل ألّبت رئيس العمال ضدّي ، كانت حقودة و غيورة لدرجة أن المراقب كان يرغمني علي العمل قبل بزوغ الشمس و يجعلني أعمل طول النهار حتي آخر قبس من نور ، و بسبب الجلد المتواصل لا أؤدي عملي بالجهد المطلوب ، ذاك المراقب أمريكي أيضا من القارة الجديدة .. و يستطيع أي شخص من الجنوب إخبارك ما يكيله الأمريكيون لنا من سوء المعاملة و الإستغلال ، هم يجيدون فن استنزاف الآخرين حتي آخر رمق و تعنيفهم حتي تدمي ظهورهم.
أخيرا ، جاءت توصيات سيدي بالتخفيف عني ، لكن سرعان ما تفطنت السيدة و زاد الخناق بعد ذلك حتي انقطعت الرحمة من قلوبهم تماما ، مذ حوالي عشرة أيام، تيقنت أني لن أصمد أكثر من ذلك ، كنت منهكة جراء العمل المضني و الجلد المتواصل حتي يئست و لم أعد آبه لشيء ، ووسط كل هذا ، كان هناك فتاة صغيرة تبلغ العاشرة من عمرها، معلولة الجسد، يتيمة الأم و كانت تحسن إلي. فأحببتها و أحبتني ، و في مرة ، بينما كنت أعمل، حاولت تمرير شيء من البطاطا المشوية إلي. لقد آثرتني علي نفسها فقد كانت تدرك أن المراقب يمنع عني الطعام الكافي. لكنه تفطن لمحاولتها، فهوي علي ظهرها السقيم بعصي غليظة بحجم المكنسة. سقطت المسكينة أرضا تصرخ و تتلوي و تتمرغ علي التراب من فرط الألم ( تصور حالة الطفلة وهي تتألم ) و كانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير (لم أتمالك نفسي) اندلعت كل النيران النائمة في صدري، فانتزعت العصي منه و طرحته أرضا. أخذ يصرخ و يتأوه ... و ملئت الفتاة من ذاك المشهد رعبا.
تجمع العمال حوله ليسعفوه، في الأثناء, امتطيت حصانه وانطلقت بأقصي سرعة نحو النهر. أعلم مصيري ان بقيت . فما إن يتماثل للشفاء، حتي يعمل علي قتلي، إن سمح له السيد. و إن لم يكن ذلك سيعرضونني للبيع عند النهر. الأمر عندي سيان. لذا قررت أن أغرق نفسي و أرتاح من كل هذا العناء. وصلت سريعا وقد بدأ الظلام يحل عندما لمحت قاربا يطفو. انبغث في قلبي الأمل. وقلت أنه لا فائدة من ٱنتظار الموت حتي اضطر لذلك. ضللت أجذف بعدها ليومين متصلين. ما ان وصلت حتي اتجهت مباشرة لمكان سكناك القديم ثم أتيت هنا و انتظرتك و لم ألتجأ لعائلة دوسن حتي أراك. مررت الإثنين الماضي من أحد مناطقهم عند الشارع الرابع أين وضعوا ملصقات العبيد الفارّين. لمحت سيدي هناك . لم أتمالك نفسي و كاد يغشاني. كنت أقف خلفه تماما و كان يحدّث رجلإ و يمده ببعض الملصقات. أحدها لي!أكيد. و أعتقد أنه خصّ لذلك مكافئة؟ هل أصبت في تقديري؟ ها؟
( يشفّ النور الخافت عن وجه توم الشاحب المتصلب )
تستكمل روكسي كلامها بصوت أكثر توجسا:
أنر الغرفة، دعني أري وجهك بوضوح ، أنت شاحب( كلون قميصك)
هل قابلت الرجل؟ هل قابلك؟
( صمت)
توم: أجل.
روكسي: متي ؟
توم: الإثنين ... عند الظهيرة.
روكسي: ظهيرة يوم الإثنين ؟ هل كان يتعقبني ؟
توم: الرجل؟...ربما... ظن ذلك؟ أعني ...كان يرجو ذلك! هل... هذه هي الملصقة التي رأيتها؟
( توم يخرج الصحيفة من جيبه)
روكسي: إقرأها لي.
توم: مكافأة بمائة دولار لمن يساعد في القبض علي أَمَةٍ فارة تدعي روكسانا. اتصلوا بمكتب الشارع الرابع.
روكسي: أعطني هذا.
توم: مالفائدة؟ أنت لا تجيدين القراءة. ماحاجتك إليها؟
روكسي [بتشنج] أعطني الصحيفة !! [يسلمها توم الصحيفة ببطئ]
روكسي: هل قرأت كل حرف فيها؟
توم: طبعا!
روكسي: تكذب!
توم: ما مصلحتي في أن أكذب عليك؟
روكسي: لا أعلم بعد... لكنك...
[تتفحص روكسي توم بتمعّن]
فزعت بشدة لمرأي ذلك الرجل حتي أني بلكاد تهاديت إلي المنزل. بعدها أعطيت رجلا أسودا دولارا مقابل الثياب التي علي ، و لم أعد هنا مذ ذلك الحين، نهارا كنت أختبئ في قبو قديم من بقايا منزل محترق و ليلا كنت أسرق بعضا من بقايا براميل السكرو أكياس الحبوب علي الأسطح لأقتات. و مع ذلك لم أتجرأ أن أخطو إلي هذا المكان حتي هذه الليلة الممطرة لقلة تواجد الناس في الجوار. منذ حلول الظلام بقيت في الممر متربّصة بك حتي تمر. و ها أنا ذا!
روكسي: قابلت ذلك الرجل ظهيرة الإثنين؟ أليس كذلك؟
توم: أجل.
روكسي: رأيته في منتصف ذلك النهار؟ تعقبك ، أليس كذلك؟
توم: علي ما أظن ..
روكسي: هل ناولك الصحيفة حينها؟
توم: لا لم يكن قد نسخها بعد.
روكسي: هل ساعدته في نشر الصحف؟
( صمت)
توم: تذكرت! أعطاني الملصقة يوم الإثنين.. منتصف ذلك النهار.
روكسي: أنت تكذب مجددا.
توم: كلا...
روكسي: أغلق فمك. سأسألك و أريد أن أري كيف ستتنصّل من السؤال الآن؟
كنت تعلم أنه يقتفي أثري و إذا لم تساعده سيشك بأمرك وبالنتيجة سيتحري عنك و هذا ما سيقوده إلي عمك. و إذا اطلع عمك علي الصّحيفة سيدرك أنك وراء بيعي عند النهر.تعلم ما يمكن أن يفعله في تلك الحالة! سيمزق الوصية إربا و يزج بك خارجا. والآن. أجب عن سؤالي: هل تآمرت مع ذلك الرجل ضدي و نصبتما لي فخا لتقبضا علي هنا ؟
( صمت طويل يسود المكان )
( بدأت ملامح توم بالإنقباض ) لم يكن باليد حيلة؟ لقد رأيت بأم عينك. لم تتركي لي خيارا أمام هروبك المفاجئ.
روكسي: لا أكاد أصدق ما يدور... حتي الكلب لا يفعلها! أنت أدني و أشر حيوان علي البسيطة و أنا سبب وجودك. ( تبصق روكسي في وجه توم. لا يبدي في المقابل حراكا)
روكسي: و الآن سأخبرك كيف تصلح ما أفسدت. سوف تعيد للرجل بقية المال الذي مازال بحوزتك ثم تحصل علي الباقي من عمك و تحرّرني.
توم: أتعلمين معني أن أطلب إليه أكثر من ثلاثمائة دولار! كيف يمكن تبرير حاجتي لكل هذا المال؟!
روكسي: أخبره الحقيقة كاملة: أنك قايضت أمك ثمن تسديد ديون القمار التي عليك و أنك كذبت علي و كنت نذلا و أني أمرتك أن تستعيد المال و تستردّ حريتي مرة أخرى .
توم: هذا جنون!! سيمزق الوصية إربا و يحرمني من الميراث في ثواني.
روكسي: لا شك في ذلك.
توم: إذن أتعتقدين أني غبي لدرجة الذهاب إليه بنفسي! أليس كذلك؟
روكسي:أنا لاأعتقد بل أجزم أنك إن لم تجمع ذلك المال سأذهب إليه بنفسي و سيكون مصيرك تماما كالمصير الذي ارتضيته لأمك: بيعك عند النهر.و ستري كم سيروقك ذلك.
( يقف توم مرتعدا، يحاول فتح الباب لكنه موصد )
روكسي:إجلس عزيزي، المفتاح بحوزتي. لا تحتاج لإطالة التفكير. لقد حسمتُ عنكما ستفعله وانتهي الأمر.
( يجلس توم يمرر أصابعة خلال شعره بتشنج و أسي )
روكسي تراقبه بحذر.
روكسي: هل الرجل معنا؟
توم: من أوحي لك بذلك؟
روكسي: أردت الخروج من المنزل لتفكر... أصلا ليس لديك عقل لتفكر به و ثانيا نظرة عينيك المريبة تفضحك. أنت أحقر حيوان... تأكد من ذلك!
روكسي: اليوم هو عيد الفصح. أعلم الرجل أنك ستتغيب لإحضار بقية المال و أنك ستعود الثلاثاء أو الإربعاء المقبل. مفهوم؟
توم: أجل.
روكسي: و ما إن تحصل علي صك حريتي حتي ترسله إلى عمك لكن تأكد أن تكتب علي ظهر الورقة ما مفاده أن يحتفط بالعقد حتي آتي أنا إليه. مفهوم؟
توم: نعم أفهم.
روكسي: خذ مضلتك و ضع قبعتك.
توم: لما؟
روكسي: هل تري هذه المدية ؟ ظللت أحملها مذ أن رأيت ذاك الرجل و اشتريت هذه الثياب. و كنت عازمة علي الإنتحار ان أمسكوني. أما الآن إذا شممت منك رائحة الغدر من جديد أو بدرت منك أية إشارة إلي هذ المنزل، سأغرس هذا السكين في صدرك.
هيا.. أفسح الطريق و مهّد لنا الخروج...
هل تدرك جيدا معني كلامي؟
توم: أدرك تماما... كلماتك.
روكسي: جيد! كلماتي تختلف عن كلامك..أطفئ النورالآن ... تحرك.
- ستار -
الكتب المنشورة
>أصدقائي الأعزاء - تم بعون الله - العمل على نشر المجموعة الأولى من كتبي لدى دور النشر العراقية واللبنانية - وهذه المجموعة
تتشكل من عدة أفاق وهي تمثل المرحلة الأولى في مجال الإنتاج الأدبي الثقافي المتنوع ..
المؤلفات هي :
o كتاب - إنانا ملكة الأرض والسماء - اسطورة بلاد مابين النهرين - يقع الكتاب في 350 صفحة من القطع الكبير وهو مترجم عن الإنكليزية مع مقدمة وافية عن تاريخ وحضارة بلاد مابين الرافدين
o الكتاب الثاني : اعظم ما كتب عن حضارة بلاد مابين النهرين وهو مترجم وكتاب مهم جدا يبحث في الحضارة الرافدية ويعتبر من المصادر المهمة
o الكتاب الثالث : اتجاهات حديثة في المسرح العالمي - دراسة اكاديمية عن مسرح وأدب الكاتب - تنسي وليامز
o الكتاب الرابع : الدليل الكامل لفن كتابة المسرحية وهو مترجم ويعتبر من الكتب المهمة في مجال نشر ثقافة الكتابة وفنون المسرح
o الكتاب الخامس: الإعلام البيئي أول دراسة في مجال نشر الوعي البيئي والتعريف بمجالات حماية البيئة والإنسان
o الكتاب السادس : قيثارة اسبانيا - الشاعر فدريكو غارسيا لوركا - دراسة في حياته وأدبه ومواقفه ..
o الكتاب السابع - كتاب وشعراء معارضون - يبحث في مواقف العديد من كتاب وشعراء العالم ومواقفهم المبدئية ضد الظلم والطغيان ..
o الكتاب الثامن : مسرح وأدب الكاتب ألمر رايس وهو الكتاب الأول في الولايات المتحدة والعالم اجمع يبحث في أدب ومسرح أحد اهم كتاب العالم ..
o الكتاب التاسع : المسرح والمعلوماتية - كتاب مترجم يبحث في التعاطي الجديد والتماهي بين افاق المعلوماتية والمسرح الحديث
o الكتاب العاشر : العواشق - رواية عراقية عن المرحلة التي سبقت احتلال العراق وتداعيات الحروب التي حصلت
o الكتاب الحادي عشر - خمس مسرحيات مترجمة من مسرح الكاتب الأمريكي الكبير يوجين أونيل
o الكتاب الثاني عشر - ثلاث مسرحيات عراقية
o الكتاب الثالث عشر - قصص عراقية
o الكتاب الرابع عشر مسرحيات ذات فصل واحد -
o الكتاب الخامس عشر - قصص للإطفال
o الكتاب السادس عشر - دراسات في ادب وثقافة الأطفال
o الكتاب السابع عشر - دراسات في المسرح العالمي
o الكتاب الثامن عشر الرموز المحظورة - دراسات في التراث
تحياتي
الدكتور شاكر الحاج مخلف
تتشكل من عدة أفاق وهي تمثل المرحلة الأولى في مجال الإنتاج الأدبي الثقافي المتنوع ..
المؤلفات هي :
o كتاب - إنانا ملكة الأرض والسماء - اسطورة بلاد مابين النهرين - يقع الكتاب في 350 صفحة من القطع الكبير وهو مترجم عن الإنكليزية مع مقدمة وافية عن تاريخ وحضارة بلاد مابين الرافدين
o الكتاب الثاني : اعظم ما كتب عن حضارة بلاد مابين النهرين وهو مترجم وكتاب مهم جدا يبحث في الحضارة الرافدية ويعتبر من المصادر المهمة
o الكتاب الثالث : اتجاهات حديثة في المسرح العالمي - دراسة اكاديمية عن مسرح وأدب الكاتب - تنسي وليامز
o الكتاب الرابع : الدليل الكامل لفن كتابة المسرحية وهو مترجم ويعتبر من الكتب المهمة في مجال نشر ثقافة الكتابة وفنون المسرح
o الكتاب الخامس: الإعلام البيئي أول دراسة في مجال نشر الوعي البيئي والتعريف بمجالات حماية البيئة والإنسان
o الكتاب السادس : قيثارة اسبانيا - الشاعر فدريكو غارسيا لوركا - دراسة في حياته وأدبه ومواقفه ..
o الكتاب السابع - كتاب وشعراء معارضون - يبحث في مواقف العديد من كتاب وشعراء العالم ومواقفهم المبدئية ضد الظلم والطغيان ..
o الكتاب الثامن : مسرح وأدب الكاتب ألمر رايس وهو الكتاب الأول في الولايات المتحدة والعالم اجمع يبحث في أدب ومسرح أحد اهم كتاب العالم ..
o الكتاب التاسع : المسرح والمعلوماتية - كتاب مترجم يبحث في التعاطي الجديد والتماهي بين افاق المعلوماتية والمسرح الحديث
o الكتاب العاشر : العواشق - رواية عراقية عن المرحلة التي سبقت احتلال العراق وتداعيات الحروب التي حصلت
o الكتاب الحادي عشر - خمس مسرحيات مترجمة من مسرح الكاتب الأمريكي الكبير يوجين أونيل
o الكتاب الثاني عشر - ثلاث مسرحيات عراقية
o الكتاب الثالث عشر - قصص عراقية
o الكتاب الرابع عشر مسرحيات ذات فصل واحد -
o الكتاب الخامس عشر - قصص للإطفال
o الكتاب السادس عشر - دراسات في ادب وثقافة الأطفال
o الكتاب السابع عشر - دراسات في المسرح العالمي
o الكتاب الثامن عشر الرموز المحظورة - دراسات في التراث
تحياتي
الدكتور شاكر الحاج مخلف
ثلاث قصص من ارشيف الكاتب - موباسان - ترجمة د. شاكر الحاج مخلف
اعتدل في جلسته أمام المحدقين به وقال ، القصة قديمة وقعت أثناء الحرب مع بروسيا ، توقف لحظة سحب فيها دخان غليونه ثم نفت الدخان الكثيف كما يحصل في فوهة المدخنة ، صنع بتلك الحركة دوائر وأشكال غير منتظمة سرعان ما شتتها تيار الهواء القادم من فتحات النافذة الكبيرة ، ثم أضاف ، كنت أسكن في ضاحية " كورمي " تعرفون خصوصية التضاريس هناك ، ثم توقف لبرهة من الزمن رصد خلالها ردود الفعل والمتابعة والصمت الذي أطبق على الذين يستمعون إليه ، قال ، الأحداث وقعت عندما دخل جنود " بروسيا " إلى البلدة من جهة الغابة الكبيرة ، محور هذه القصة امرأة كانت تسكن بجوار داري ، قبل الحرب فقدت عقلها وعندما دارت الحرب فوق أرض البلدة فقدناها إلى الأبد ، تلك المخلوقة في سجلها الذي أعرفه كما أعرف نفسي تعاظمت عليها المصائب القاسية بشكل متتابع ، تصوروا فقدت أبيها وزوجها وأبنها البكر وهي في عامها الخامس والعشرين ، كارثة غير متوقعة خطفت الثلاثة خلال شهر واحد ، حتى قال الناس آنذاك ما اعتبر حكمة لها ما يبررها ولا يمكن التشكيك في ما تصبوا إليه والكارثة ماثلة للعيان ، قالوا " إذا عرف الموت الطريق إلى أحد البيوت ونجح في مهمته فأنه لا ريب سيعود مرارا " تلك الجارة الطيبة الوادعة الجميلة المتشابكة جذور عائلتها في أعماق تلك الأرض من أزمنة قديمة ، أول تلك المسكينة أفقدها الحزن السرمدي رشدها لازمت سرير النوم بعد تمكن الشلل من جسدها الغض ، الحزن والأسى بعثا في عقلها ونفسها كوابيس سلطت عليها الخوف والرعب المتواصل ، ذكريات الأعزاء الذين تواروا كنواقيس نوتردام تدق في جدار رأسها ، لم تمرّ عدة أسابيع حتى وجدناها تهذي وتتحدث أمامنا حديث الجنون ، ثم التوى لسانها ففقدت النطق تماما وظلت تصدر أصواتا مبحوحة كما تفعل الحيوانات المصابة بجراح كبيرة ، الذين كانوا يزورونها من أبناء القرية ذكروا لي أنها صارت تمتنع عن تناول الطعام إلا ما ندر ، لم تكن تستطيع الحركة أو القيام بأي عمل سوى تحريك نظراتها في أرجاء الغرفة القاتمة الجاثم عليها رداء الحزن ، وعندما تنفرج ستارة النافذة فأن بصرها يتعلق في الأفق البعيد كمن يرى ما يسّر ، ليلة بعد أخرى يزداد صراخها بشكل حاد يوجع القلب ويبعد عن عيني الرقاد ، وكلما حاول الأقارب والجيران مساعدتها على النهوض من فراشها يواجهون الفشل ويزداد الصراخ والجلبة القوية ، حتى كنت أعتقد أنها تتعرض للضرب من قبلهم أو لتعذيب مشابه للذي يحصل في " سجن الباستيل " ولكن ذلك اعتقاد غير صحيح ، الذين يدخلون حجرتها يتألمون من أجلها ويحزنون بعمق ، قلوب رحيمة رفضت تركها وحيدة في محنتها ، جلبوا لها العديد من الأطباء والجواب دائما لقد سيطر الشلل على جسدها ولا فائدة من العلاج ، تدارس أصحاب البصيرة الأمر وقرروا إبقائها في الفراش حتى يحكم الله في أمرها ، كما بحثوا عمن يهتم بها وخصصوا له مكافأة مالية ، تطوعت عجوز بملازمتها وتقديم الرعاية لها والإشراف على شؤونها ، ظلت تسقيها الماء والقليل من الطعام ، تتناول القليل من اللحم المسلوق ، ذات فجر مرّ تحول السكون في المدينة إلى صخب كبير نجم عنه الخوف والقلق ، ذلك عندما استفاق سكان المدينة على وقع احتلالها من قبل قوات " بروسيا " كان وقع خطواتهم العسكرية الرتيبة يهز الأرض ويعفر الفضاء ، كانوا يأتون أفواجا لا تنقطع نهاياتها من أطراف الغابة التي تحد حافاتها المدينة من الجنوب ، اقتربت من النافذة كي أرى ذلك المشهد البغيض الذي صنع المأساة الكبيرة في المدينة الهادئة ، طوابير القوات العسكرية تندفع في زحف لا يتوقف ، العربات والخيول والجنود الذين يضربون الأرض بقوة بتلك الأحذية القوية الملطخة بالوحل ونتف الثلج وهم يتوغلون باتجاه الأفق البعيد ، تلمع فوق رؤوسهم رماح البنادق ، وعندما زحف الملل على تفاصيل المشهد المستمر دون تغيير عدت إلى الكرسي الذي بجوار المدفأة ، خيمّ الليل ولف السكون كل شيء باستثناء طلقات متقطعة تسمع هنا وهناك في الفضاء البعيد ، وفجأة ارتفع صوت الجارة المشلولة ولكنه ضاع في تفاصيل مرور عربات عسكرية وصهيل جياد متعبة ، ثم أرتفع الصوت من جديد يعلن عن الألم القاسي الذي تعانيه ولكنه بعد ثوان تحول إلى حشرجة مكتومة ، مضت عدة أيام هادئة مغلفة بالهواجس والترقب وذات ليلة طرق باب داري أحد وجهاء المدينة وقال :
- صدرت أوامر الحاكم العسكري باستضافة الجنود في بيوت المدينة ..
قلت له :
- كيف ...؟
قال :
- سنُبلغ بالتفاصيل فيما بعد ...! أنها استضافة مؤقتة حتى تنتهي الحرب .. إياك أن ترفض .. !
بعد ساعات تمّ توزيع الجنود على بيوت المدينة وكانت حصتي أثنى عشرة جنديا ، بينما كانت حصة الجارة المشلولة ثلاثة عشر جنديا مع ضابط – أطلقنا عليه فيما بعد لقبا مناسبا له " سيئ الخلق والتصرف " ، طلب الحاكم العسكري جميع أهالي المدينة لموافاته في دار البلدية التي اتخذها مقرا له ، لم يتخلف عن ذلك الاجتماع سوى الجارة المشلولة ، أتذكر عندما غادرنا المكان بعد نهاية الاجتماع كان الثلج يتساقط بكثافة شديدة ، وتدريجيا أغلقت جميع الطرق بين مركز المدينة وما يجاورها من قرى و بلدات ، أما الغابة فقد صار الوصول إليها أشبه بالمستحيل ، في اليوم التالي علمت أن الضابط البروسي – سيئ الخلق والتصرف – طلب من الخادمة التي تعمل في بيت الجارة المشلولة إبلاغ سيدتها بضرورة النزول لحضور اجتماع يتم فيه إبلاغها بالتعليمات الجديدة وكذلك توزيع المهمات كما يرمي أيضا إلى تعريف الجنود بصاحبة المنزل التي لم تبادر إلى ذلك كما فعل الجميع من سكان المدينة ، وعندما نقلت الخادمة تلك التوجيهات إلى سيدتها تصاعد صراخها وظلت تتقلب في فراشها مثل خشبة يابسة تحاول أن تنقلب ، كنت في تلك الساعة أقلب جمرات النار المشتعلة عندما تعاظم صراخها ، علمت في اليوم التالي أن الخادمة عادت إلى الضابط البروسي وقالت له :
- يتعذر على سيدتي النزول إلى البهوّ ...
هزّ الضابط رأسه أمام الجنود ثم أمر الخادمة بالانصراف ، شعر بأن ذلك الرفض قد جرح كبريائه وأن صاحبة المنزل ربما تتصرف بناءا على أوامر تصدر إليها من جهة ما ، ظل يحتسي الشراب والتفكير بذلك الرفض يطارده ، كنت في اليوم التالي وقبل أن ينطلق صراخ الجارة المشلولة استمع من أحد الأصدقاء المخلصين إلى أخبار كثيرة وقصص غريبة تخص ممارسات قوات بروسيا في مدينتنا ، قال الصديق " أنهم مثل الجراد الصحراوي الذي دخل حقلا يانعا " ثم أطلق ضحكة قوية لكنها حزينة تعج بالألم ، عندها بدأ صراخ الجارة المشلولة كما لو أنها للوهلة الأولى تدرك حجم الكارثة التي نرزح تحت ثقلها جميعا ، كانت واقفة كالتمثال تستند إلى الكرسي الخشبي البرونزي تشبه وقفة " ماري أنطوانيت " وجهها أزداد شحوبا وعينيها تدوران في المكان تسبحان بيأس شديد في بحر الحزن الذي لا ضفاف له ، تقبلت مني التعازي بصمت مطبق مع تسلل دمعة من بؤبؤ العين منحدرة إلى الأسفل ، أطلقنا على بيتها اسم " بيت الأحزان والكوارث " عندما دخل الضابط البروسي – سيئ الخلق والتصرف – إلى حجرتها في المقابلة الأولى وجدها ترقد في سريرها ، نظر إلى وجهها ، رأى نظراتها جامدة قاسية ترسل إشارات من الرفض العميق ، طلب منها النهوض من سريرها والتحرك نحو بهوّ الدار ، لكن الخادمة ركعت عند قدميه متوسلة وقالت :
- أنها يا سيدي لا تستطيع الحركة ، هي مشلولة منذ خمس سنوات ، أرجوك ؛ أنها تعاني من مرض عضال ..
في تلك اللحظة تصاعد صراخ الجارة المشلولة ، الأمر الذي دفع الضابط البروسي – سيئ الخلق والتصرف – إلى الظن بأن ما يجري ليس إلا " موتيف " متفق عليه بين صاحبة الدار والخادمة .. تحرك عدة خطوات ثم دار حول سرير الجارة المشلولة مركزا نظراته في وجهها الجامد الشاحب الحزين ، ثم نظر إلى الخادمة وقال حازما :
- غدا نرسلها في نزهة هي بحاجة إليها ...!
ثم استدار نحو ثلة الجنود الذين تكدسوا بشكل غير مرتب في باب الغرفة وتحدث معهم حديثا مقتضبا مستخدما عبارات قصيرة نطقها باللغة الألمانية .. بعد ذلك غادر المكان يتبعه جنوده بينما تصاعد صراخ الجارة المشلولة ، في اليوم التالي صعد أحد الجنود وطلب من الخادمة تغيير ملابس الجارة المشلولة ، وبين صراخها والممانعة اليائسة تمكنت الخادمة من تغيير ملابسها وقد اختارت لها ثوبا أبيضا مرصعا بالورود الجميلة يعود لأيام الزفاف ، بعد ذلك دخلت ثلة من الجنود الغرفة وحملوا السرير على أكتافهم والجارة المشلولة ترقد فيه تحركوا عبر الممر إلى البهوّ ، كان الضابط البروسي – سيئ الخلق والتصرف – يقف في زاوية من المكان يتابعها بطرف عينه ويتدخل بتوجيه جنوده ن ثم حضر جندي يحمل صرة فيها ملابس وبعض المتاع ، وضعها كما أشار الضابط فوق جسد الجارة المشلولة بالقرب من أقدامها ، ثم سمع الجميع الضابط ينظر إلى وجه الجارة المشلولة متشفيا وهو ينطق كلماته المقتضبة ، قال :
- سنرى كيف ستعود من تلك النزهة ، ليس أمامها سوى استخدام أقدامها ..!
ثم أكمل بقية توجيهاته باللغة الألمانية ، وعلى الفور حمل الجنود السرير وفيه الجارة المشلولة وخرجوا به من الدار باتجاه الغابة ن كنت أنظر إليها من النافذة ، هادئة ، صامتة ، نظراتها تدور حول المكان ، تحرك ركب الجنود عبر الطريق المغطى بالثلوج ، تابعتهم من طرف النافذة وهم يبتعدون حتى صاروا في نقطة التلاشي ، مجرد نقطة سوداء اختفت منها جميع التفاصيل بدأت تتوغل في حافة الغابة ، مضت بعد ذلك عدة ساعات ، كنا ننتظر ماذا يحدث ..؟ لم يغامر أحد من الجيران بالذهاب في أثر الجنود الذين عادوا لوحدهم ، كان البعض منا يراوده مجرد حلم يتمثل بوقوف المشلولة على قدميها وتعود ماشية إلى بيتها ونحن نتضامن معها لتقديم احتجاج ضد الذي جرى معها ، جلسنا عند النوافذ نترقب الطريق القادم من الغابة ، مضت عدة ساعات ، ثم جاء الليل الذي غير القليل من الأفكار ، ثم تعاقبت الأيام والمشلولة غائبة عن دارها ، ثم استحكمت القناعة بأننا لن نراها بعد ذلك ، ولكن أسئلة كثيرة كانت تراود العقول ، نتحدث بها همسا كلما التقينا جماعات ، ماذا فعل جنود " بروسيا " بالجارة المشلولة ...؟ إلى أين ذهبوا بها وهم يحملون سريرها على أكتافهم ، نساء القرية نسجن قصة تدور حول استغلالها جنسيا ثم نقلها إلى مكان بعيد ربما معسكر للأسرى ، ولكن لا أثر يمكن الركون إليه ، كنت أحرك بالملقط الأسود جمر النار في المدفأة وأنظر من النافذة إلى تلك الغابة التي ابتلعت الجارة المشلولة وذكرياتها ، كان الثلج الكثيف يتساقط ليلا ونهارا ويغطي الأرض المنبسطة وكذلك يصبغ الجبال باللون الأبيض المشع ، ويعيق الحركة بين القرى ويمنع تماما دخول الغابة ، ولكن لا يمنع حركة الذئاب وصوت عوائها المتواصل هناك ، في تلك الليلة رأيت الذئاب تجوب ضواحي المدينة تدور وتعوي حتى كانت قرب أبواب البيوت تبحث عن فريسة ، قال جاري وهو يصرخ من نافذة داره المفتوحة :
- الثلج والذئاب أطبقا علينا ..!
لكن طيف الجارة المشلولة ما أنفك يطارد خيالي المشتت ، في اليوم التالي طرقت باب دار الجارة المشلولة وطلبت مقابلة الضابط ، وعندما تمّ ذلك قدمت له كيسا من التبغ الفاخر هدية لمد جسور صداقة مؤقتة تفضي لمعرفة الذي حدث للجارة المشلولة ولكنه عندما علم بباطن الأسئلة التي كنت أطرحها عليه طلب مني بوقاحة شديدة مغادرة المكان ، ولم يتوقف عند هذا بل خطط لقتلي عندما أطلق الرصاص ذات ليلة في أثري ، بعد ذلك لزمت داري حتى انتقل هو وجنوده إلى مدينة أخرى ، عندها فقط وجدت خطواتي تقودني نحو دار الجارة المشلولة المفقودة ، كان الخراب والدمار ينتشر في كل أرجاء تلك الدار التي كانت تُعد من أجمل المباني ، وجدت الباب مخلوعا وكذلك النوافذ محطمة ، والستائر ممزقة ، والجدران توغل فيها حتار الرصاص ، والنباتات ومعها الأشجار ماتت وهي واقفة ،وقد نهب جنود الضابط البروسي سيئ الأخلاق والتصرف ، كل شيء كان موجودا في الدار ، بعد ذلك اليوم رحل الكثير من سكان المدينة وتغيرت الأحوال نحو الأسوأ ، وظلت دار الجارة المشلولة تثير في نفسي الحزن والكآبة والألم ، كما ظل السؤال عن مصيرها يطارد عقلي كنت أتوق على الدوام لمعرفة الذي حصل لها على يد جنود بروسيا عندما ذهبوا بها إلى الغابة ، كنت قد سمعت الكثير من التكهنات التي رفضها عقلي تماما ، مثلا قال البعض أنها فرّت من يد جنود بروسيا إلى جهة غير معلومة ، وقال آخرون أنها اجتازت الغابة إلى حدود دولة مجاورة ، لكن فلاح من قرية ملاصقة للغابة روى لنا قصة مختلقة عندما قال أنهم عثروا عليها ونقلوها إلى المستشفى البعيد وبعد تلقيها العلاج غادرته واختفت ، وطلب منه البعض ذكر اسم المستشفى لكنه لاذ بالصمت فتحطمت بذلك تلك الأكذوبة مع القصص السابقة المنسوجة ، بعد عدة أسابيع تغيرت الأحوال الجوية وساد الربيع فوق الأرض ، وشعرت أن ألم المفاصل قد بدأ يخف ، عندها خرجت إلى وسط حديقة الدار أتابع مرور رفوف أسراب الطيور وهي ذاهبة باتجاه الغابة ، تحرك في داخلي الحنين إلى أيام الماضي وذكريات الصيد ، حملت بندقيتي وخرجت لكي أتوغل في الغابة ، وعندما قطعت مسافة اجتزت فيها الكثير من الأشجار أطلقت طلقة بندقيتي على رف من الطيور يمرّ من بين الأشجار ، سقط منه ثلاثة في مكان واحد قرب حفرة تقع بين شجرتين كبيرتين من أشجار السروّ ، لكي ألتقط الطيور الجريحة اضطررت إلى النزول إلى عمق الحفرة ، ثم وأنا التقط إحداها اصطدمت يديّ بعمود حديد مدفون في الحفرة ، وبجانبه جمجمة ، أزلت بعض التراب ، كان العمود جزء من سرير حديدي ، فورا قفزت إلى ذهني صورة الجارة المشلولة ، في تلك اللحظة كما لو أن صاعقة قوية ضربت بصري وجسدي ، أحسست أنني أسقط في جوف الحفرة دون حركة ، مرّ زمن ثم انتبهت إلى نفسي غادرت الحفرة وأنا أحمل البندقية قررت فورا مغادرة تلك الغابة المشؤومة ، الآن بدأت أعلم تماما أنها تحولت على أيدي قوات " بروسيا " إلى مدفن كبير ، ظل وجه الجارة المسلولة المفقودة يتابعني كنت أرى صورتها على الأشجار وعلى الصخور الكبيرة ، ثم ظل يبرز لي كل ليلة من خلال زجاج النافذة ، وكلما اقتربت منه وجدته من نماذج الخداع البصري والتخيل ، تلك الحالة تركت في أعماقي إحساسا قويا بأنني سأراها ذات يوم وقد عادت إلى دارها المدمرة ، لم يستمر ذلك الإحساس طويلا فقد مزقته تلك الحادثة التي فرضت عليّ التفكير والتعليل فيما جرى ، حتى تمكنت من الاعتقاد بأن الذي حدث هو أن جنود " بروسيا " دخلوا الغابة وهم يحملون الجارة المشلولة نائمة في سريرها ، ثم تركوها في تلك الحفرة والثلوج تتساقط بكثافة ، استسلمت لمصيرها في دائرة تمثل الوحشة والخوف والشلل ، ربما افترستها تلك الذئاب الجائعة ، في النهاية هي مضت ولكنها تركت لدى الجميع ذلك الموقف الكبير والذي تمثل في رفضها تنفيذ أوامر الضابط البروسني وهي مشلولة ...!
حالة تسوّل
تذكر الأيام الجميلة التي عاش تفاصيلها قبل أن يتحول إلى الحالة التي هو فيها الآن ، ويصبح يعاني من حالة العّوق والفقر ، يحن إلى أيام حياته السالفة كثيرا ويحزن عندما يتذكر تفاصيل ذلك اليوم الذي وقعت فيه الحادثة – الكارثة حتى صارت أيامه التالية مصبوغة أو مصنوعة من تفاصيل الحزن الناجم عن البؤس ، في سن الخامسة عشر من عمره تعرض لحادث دهس من قبل سيارة كانت تمرّ في شارع " فارفيل " ، منذ ذلك الوقت تقريبا وكما قال هو ، صار مشلولا يتحرك كالكسيح يسحب جسده على الطرقات بصعوبة بالغة ، يتنقل بين الضواحي الصغيرة والكبيرة من تلك المزدحمة بالوافدين إليها ، مستخدما عكازيه الخشبيين اللذان بموجب استخدامهما صار كتفيه يرتفعان قسرا إلى مستوى أذنيه ، الأمر الذي جعل رأسه يبدو أثناء المسير مثل علامة تغوص بين جبلين ، الناس الذين يعرفونه يقولون عنه " أن حياته بدأت عندما عثر عليه رجل دين كان يُدير كنيسة في المدينة الصغيرة – بيبيت – في أول أيام ولادته رضيعا عاريا قد وضع في حفرة غير عميقة ، أطلق صراخه ليلة الاحتفال – بيوم الغياب الأبدي – كرنفال كبير يرمز إلى نبذ فكرة الموت ، رجل الدين الذي عثر عليه اسماه – نيكولا – ذلك الاسم يرمز أيضا إلى رجل دين مشهور في الأزمنة السابقة يقدسه اتباع الإنجيل ، المهم في القصة أن – نيكولا – ترعرع في دار الأيتام التابع للكنيسة ، هو لم يحصل على أي تعليم ، بل ظل أسير الجهل ، ثم تعرض لحادث الدهس ، وقع ذلك عندما كان يسير بشكل أفعواني مخمورا ، شرب عدة كؤوس من نبيذ معتق يملكه خباز يعمل في " فرن القرية " والذي كانت قد ربطت بينهما صداقة حديثة ، وتعليل ما حدث من قبل العجائز " أنه رفض الخدمة في الكنيسة فغضب الرب عليه ، فصار متشردا متسولا لا يعرف أية مهنة " بينما هو يستند بعد التعب والحركة إلى جدار ظله يشبه ظل الخيمة ، يستذكر جانبا من حياته الماضية يحن إلى الأيام السالفة التي قضاها في كنف البارونة – أفاري – التي كانت رحيمة معه وفرت له حجرة كان يأوي فيها كلبها – سيمون – الحجرة كانت مليئة بالتبن ، وهي تقع بجوار " قن " الدجاج والبط في تفاصيل البناء المهجور الملاصق للقصر ، هو ينام فيها وكلما كان الجوع يشتد لديه يبحث في بقايا المطبخ عن كسرة خبز وكوبا من شراب العصير المتبقي في الأقداح المستخدمة ، كانت العجوز ذات الثراء قبل موتها تلقي إليه ببعض قطع النقود من شرفة قصرها أو أحيانا من أعلى درجات السلم الخارجي أو تفتح نافذة غرفتها وترمي بالنقود إليه ، وعندما وجد العسر يشتد عليه طلب المساعدة من سكان القرية ، لكنهم بعد فترة وجيزة ضاقوا ذرعا به وامتنعوا عن تقديم الصدقة له ، مرت أربعين عاما وهو يسحب جسده الكسيح أمامهم بما يثير فيهم الاشمئزاز والغثيان ، كما نفروا من منظره وهو يتحرك حركة تشبه ما قبل الموت بتلك الآلة الخشبية التي تآكلت من أطرافها من كثرة استخدامها في الحركة بين الممرات والدروب والمساكن ، ورغم حالة الاحتقار والازدراء التي تلاحقه في تلك القرية إلا أنه متشبث في البقاء فيها لأنه يدرك تماما عدم جدوى الرحيل عنها ، وهو يدرك عدم وجود مأوى له إذا قرر ترك هذه القرية ، لقد أحب هذا المكان ؛ تآلف مع حالة البؤس والعوز ، ومن تفاصيل تلك السنوات التي مرت عليه تشكلت له تجربة خاصة في التسول ، فهو قد وضع في ذهنه مخططا للمواقع والنقاط التي أعتاد الظهور فيها للتسول ، لم يكن بمقدوره أن يتجاوز الغياب عنها كثيرا أو يبتعد إلى مناطق أو أماكن أخرى ، كلما ترك حافات تلك القرية واقترب من الغابة الكثيفة شعر بالرعب يستولي عليه ، تلك الغابة تحجب عنه الرؤيا وتفرض عليه الظلام الذي تغرق فيه مساحات شاسعة فيها ، كان يجهل تماما ما الذي يوجد خلف ذلك العالم الذي يرعبه ، مع أنه وقف ذات يوم طويلا أمامها لكنه من أجل أن يظل على قيد الحياة ويحصل على قوته طرد الفكرة من رأسه ، ثم عاد من جديد نحو البيوت المتراصة والمتباعدة في القرية وسار من جديد في دروبها ، كان يرى في طريق عودته أهل القرية من الذين رفضوا مساعدته قرب حقولهم أو في حدائقهم الخاصة يقطفون الثمار أو في الخنادق التي صنعوها ووضعوا حولها كمائن الصيد ، وجد نفسه كلما اقترب من عالمهم الخاص أطلقوا عقيرتهم بالصراخ الغاضب نحوه :
- " هيييييييه " ... أبتعد من هنا أيها الكسيح ، ماذا تنتظر هنا ، لماذا لا ترحل عن هذه القرية إلى قرى أخرى ، هل تنتظر الموت فوق أرض هذه القرية ، أبتعد من هنا ... أبتعد ، ألم يتحطم عكازك اللعين بعد ...!
يلتزم " نيكولا " الصمت وينظر بحزن عميق إلى تلك الوجوه التي تطرده من الحياة البائسة بينما طرحت عليها القسمة والقدر الترف والنعمة ، كل ليلة يراجع تفاصيل يومه يحسب عدد الإهانات وحالات التجاوز التي حصل عليها من أصحاب الوجوه العابسة والقلوب غير الرحيمة ، خوفا من تلك النظرات العدائية المتشككة المزدرية التي تعيب عليه حالة العوق وتشمئز من حالة البؤس التي يتمرغ فيها ، لذلك كان يتوقف عن الحركة و يتوارى بين الدغل أو الأحراش أو أكوام الحجارة عندما يرى فجأة رجال الشرطة من الذين كانوا يسيرون على هيئة دوريات مراقبة على الطرقات ، كل دورية تتشكل من اثنان أو ثلاثة ، يظل ينظر من مكان اختبائه إلى ملابسهم التي تلمع النياشين المثبتة عليها تحت أشعة الشمس الساقطة عليها ، فجأة ودون أن يترك لهم الفرصة لرصد يتهاوى من عكازه ويتدحرج على الأرض ثم يخفي جسده كما يفعل الأرنب البري أو السنجاب ، اللذان يدخلان جحريهما بسرعة فائقة اتقاءا للخطر القادم ، يتعفر وجهه وملابسه بالتراب ، ومع أن رجال الشرطة لا يعرفون لماذا هو يخاف منهم وليس لهم به أية صلة إلا أنه يخضع بشكل لا حدود له لمطارق الخوف من رجال الشرطة ومن يماثلهم من أصحاب السلطة ، لذلك يعمد إلى تلك الحيلة التي تجعل خوفه يتحول إلى جدار من القوة والممانعة ، تلك الخصال صارت تتعاظم لديه وتسري في جسده كما تتحرك الدماء في العروق ، ربما كان الإرث الوحيد الذي حمله من أبويه المجهولين ، هو يدرك فكرة وجوده ويعلم عن يقين أن لا مأوى له ولا سقف يستظل به ولا يجد تكوين كوخ يرسم داخل أبعاده أحلامه المؤجلة ، في الصيف يبحث عن ارض مستوية فيها أعشاب يتخذها سريرا له ، يندس في الشتاء كما تندس الأرانب والأفاعي بين اسطبلات الخيول أو موجودات المخازن الكبيرة ، وقد وضع خطة محكمة حيث يُخلي المكان الذي يرتاده قبل أن يكتشف أمره ، كان يعرف بدقة كل الممرات والفجوات والمخابئ في القرية كما لو أنه هو الذي صممها ، أيضا استخدامه للعكازين طيلة تلك السنوات أعطت ذراعيه قوة كبيرة وجعلت عضلات يديه تبرز بشكل مختلف عن بقية أجزاء جسده ، عندما كان يجد قوتا كافيا لمدة أسبوع يعمد إلى تسلق مخازن العلف ويخلد إلى الراحة والسكينة والنوم فوق ربطات العلف المرصوفة حتى سقوف المخازن ، تلك الفترة التي ينقطع فيها عن الظهور يعتقد أهل القرية أن الموت قد أختطفه وتسري التكهنات بشأن ذلك وتنسج القصص ، وعندما يظهر من جديد يتحرك كما يتحرك حيوان الغابة بينهم تموت جميع القصص والتكهنات وتعود الوجوه لحالة العبس ، هو منبوذ ومرفوض لا يعرف كيف يتخلص من ذلك الطوق ، لا يشعر بحب أحد نحوه أو بالتآلف مع أحد ، لم يتمكن من النفاذ من تلك القيود الصارمة التي فرضها سكان القرية عليه وخضع لها وتطبع عليها دون اعتراض أو مقاومة لها ، هو يدرك أنه لا يثير الشفقة أو العطف تلك الصفات ماتت منذ زمن بعيد ، هو يدرك أنه يثير الاحتقار لديهم واللامبالاة والعداء في الكثير من الأوقات ، من كثرة غيضهم منه أطلقوا عليه تندرا لقب " الجرس المشروخ " نسبة إلى جرس الكنيسة الموجود بين دعامتين من الخشب المشروخ ، يومان مرا عليه وهو لم يأكل أي طعام ، ليلة أمس اتفقوا جميعا واتخذوا القرار الذي يقضي بعدم إعطائه أي شيء ، كما أنهم أفهموه بلهجة واضحة بأنهم لا يرغبون ببقائه في القرية ، كان البعض منهم يطلق ضده الهتاف :
- ألم ترحل عن قريتنا بعد ...!؟
وعندما فتح فمه ليقول جملة واحدة ؛ أنه يريد القليل من الطعام ، صرخ بوجهه الرجل البدين زاجرا إياه وقال له بغضب شديد :
- منذ ثلاثة أيام طلبت منّا الطعام وأطعمناك ... أذهب من هنا ...!
أشتد به اليأس والجوع يواصل قرص أمعائه ،تحرك من جديد على عكازيه وقصد المنزل المجاور ، لكنه أيضا طرد ورد على عقبيه خائبا ، وسمع النسوة العجائز الجالسات أمام باب أحد البيوت يتهامسن ويرسلن إشارات عنه ، ثم رفعت إحداهن الصوت في أثره :
- من غير المعقول أيها الكسيح أن تستمر القرية في أعالتك ، ألا تريد أن تفهم ..؟!
وأخرى تتبعها فتضيف :
- أنظرن إليه ؛ هو يشبه " تمبل الإمبراطور " ...!
تمبل الإمبراطور أو المتسول أو المسكين أو الكسيح ، لا يوجد فرق بين تلك الكلمات ، هو الآن يحتاج إلى طعام كل يوم أو في حالة عدم توفير الطعام يواجه الموت جوعا ، تجوّل في ضواحي " سانت هيلييز " و " فارفيل " ومنطقة " ويييب " لكنه لم يحصل على سنتيما واحدا من النقود أو حتى على قطعة خبز يابسة ، بحث حتى في القمامة ، بعد ذلك أدرك أنه لم يبق أمامه سوى أن يشد الرحال إلى " تورتول " من أجل تحقيق تلك الرغبة ، عليه أن يسير مسافة ميلين باستخدام الطريق المعبد العام ، وبعد أن باشر في التنفيذ وقطع مسافة قليلة شعر بعدها بالتعب الشديد ، صار جسده عبئا عليه يسحبه بصعوبة مع الضغط على هوّة الجوع حيث بطنه الفارغة باتت تصدر أصوات متتابعة تشبه صرير تلك الرياح الباردة التي بدأت تتحرك فوق تلك الحقول الخضراء الممتدة والآلة الخشبية التي يتحرك عليها تبدو مثل تلك الأغصان العارية ، رأى السحب العالية الداكنة تفرّ من مجمعها أمام ضغط تلك الرياح في الأفق البعيد الممتد إلى ما لا نهاية ، حركته العرجاء تبدو واضحة بطيئة يتحرك مغالبا حركة الرياح ، يحرك عكازيه بمشقة ويثبت بصعوبة أيضا الواحد تلوّ الآخر ، واضعا ثقله على الساق السليمة بينما تنتهي الحركة العرجاء لدى الساق الثانية المعوجة الملفوفة بقطعة قماش قديمة ممزقة ، راح من وقت لآخر يقعد على حافة الطريق كي يأخذ قسطا من الراحة ، شعرّ بالتعب مع تزايد الجوع ، تكاد روحه تخرج من ذاك الجسد المتعب ، في تلك الحركة ومع المسافة التي قطعها لم يكن يفكرّ سوى بالحصول على الطعام ، ولكن كيف ...؟! هو لا يدري والطريق ما يزال طويلا يمتد إلى ما لا نهاية ، ثلاث ساعات مضت وهو يصارع الثلاثي " الجوع والرياح والتعب " وعندما أدرك أن قواه بدأت تنهار رفع رأسه نحو الأفق الممتد أمامه رأى أشجار كثيرة تحيط بالقرية التي يقصدها تقترب كما لو أنها قررت تقليص المسافة ، رأى الأمل الذي يبحث عنه وضاعف آنذاك من حركته ، مرت مدة وجيزة من الزمن حتى أقترب من رجل فلاح يعمل قرب شجيرات صغيرة ، بدا الفلاح من نظراته إليه يعرفه فقال له بصوت خشن :
- عدت من جديد ، ألم تغير عملك ، هل تبقى تتسول حتى تقبرك الأيام ويتلاشى أثرك ..!؟
مرة أخرى صفعته خيبة الأمل ابتعد ومرّ من أمام بيوت القرية ، طرق الأبواب الواحد تلوّ الآخر ، لم يجد في انتظاره سوى اللعنات والطرد والاستهزاء منه ومع ذلك أصر أن يكمل مشواره في صبرّ وتجلد ، مع أنه لم يحصل على طعام أو مال ن ظلّ يتحرك باحثا عبرّ الأراضي التي بدأت الأمطار الثقيلة تغمرها ، كان التعب قد تمكن منه حتى انه لم يعد يقوى على رفع العكازين ، ثم قصد البيوت المنفردة ومرة أخرى وجد الأبواب تغلق في وجهه بقسوة لا حدود لها ، كان ذلك اليوم البارد الكئيب يبدو يوما مختلفا القدر يضيق الخناق فيه عليه ، لكنه يفكر في ذاك السرّ الغريب وراء سلوك الجميع ، مرة واحدة تعطلت تلك الخصال التي كانت سائدة لديهم ، لا وجود للرحمة والعطف والمساعدة في تلك القلوب ، سادت في العيون النظرات القاسية الوقحة ، هاجت بقوة تلك النفوس ضده ، وانغلقت مسارب الأرواح الطيبة ، الأيدي الممدودة لفعل الخير وضعت في الأغلال ساد في الفضاء الشحّ وتجاوز الرفض كل الحدود ، هل كان ذلك اتفاقا أم هو مصممّ من خلال تدبير تقوده قوة رهيبة لها سطوتها على أولئك الذين امتنعوا ، لا مجال للنجدة بعد الآن ؛ أيقن بذلك وهو يرى عن قرب جميع الأبواب توصد بوجهه ، عندما انتهت جولته بين تلك البيوت التي يعرف أصحابها ولم يظفرّ بشيء تعثر وسقط في زاوية قريبة من دار الرجل المدعوّ " شيكي " في ذلك السقوط انفصل العكازين عن يديه ووجد جسده في حالة وجع مريع من رضوض تلك الأرض الصلبة ، يمزق أمعائه ، لكنه تجلد من جديد وقرر عدم الاستسلام لتلك السقطة وما نجم عنها ، ثمة قوة خارقة مازالت تدفعه نحو الأمل المجهول ، لكنه أيقن في قرارة نفسه من أن النتائج مهما كانت قاسية لابد أن تتغير صورة الحال ، ذلك الترقب والانتظار لبوابة الأمل ذاك الذي يسكن ضفاف النفس البشرية هو وحده قريب منه ربما ينتظر في زاوية غير بعيدة منه ربما هو موجود في تفاصيل هذا الفناء المهجور رغم البرد القارص ، مثل تلك المساعدة التي ننتظرها أحيانا من السماء أو من الناس الذين لا نعرفهم دون أن نطرح السؤال وكيف ستصلنا أو بواسطة من ..؟ وفي أي وقت ولماذا ...؟ مرّ بجانبه سرب من الدجاج السود كان يبحث عن طعام أيضا في تفاصيل المكان ، تابع حركة مناقير الدجاج في كل لحظة تنقر حبة قمح أو شعير أو دودة صغيرة تتحرك بين الأعشاب ، ذلك الانتشار والتحرك ومواصلة البحث دون توقف وفي تمهل وشعور بالاطمئنان والحصول على الطعام بيسر واضح ، كان يراقب سرب الدجاج الأسود دون الدخول في التفاصيل ، لكن الأفكار بدأت تتصادم في رأسه ومن بينها سيطرة فكرة طاغية عليه ، تخيل منظر إحدى الدجاجات كوجبة طعام لذيذة وذلك عندما يتمكن من وضعها على نار الحطب الجاف الموجود بكثرة من حوله ، لم يفكر بأن ذلك العمل في حال حصوله يمثل سرقة مقصودة ، لم يتردد بل ألتقط حجرا كبيرا صلبا وضرب به أقرب دجاجة ، كانت الإصابة قاتلة حيث الدجاجة المضروبة صارت تنتفض في مكانها بينما فرّت الأخريات وهن يطلقن أصوات عالية وهن يتمايلن رعبا على قوائمهن النحيلة ، ومن جديد تسلق " جرس الكنيسة " عكازيه وتحرك عدة خطوات متمايلا مثل حركة الدجاجات ، ثم أنحنى ليلتقط الدجاجة السوداء الصريعة المخضب رأسها بدمائها ، ولكنه ما أن أقترب منها حتى شعر بيد قوية تدفعه من وسط ظهره ورمته بعيدا عن مكان الدجاجة المقتولة ، الذي حدث في تلك اللحظة هو أن صاحب الدار المسمى " شيكي " أنقض عليه في غضب عارم مهددا ذلك المتطاول الذي لم يتمكن من الإفلات من لكماته وركلاته القوية ، لم تمض سوى لحظات حتى أنضم إليه عمال المزرعة جميعهم انهالوا على الكسيح بالضرب وعندما تعبوا من ضربه وجدوه قد فقد الوعي والمقاومة حملوه كما يحملون جثة لا حراك فيها ووضعوه في مخزن الحطب ومن ثم أغلقوا عليه الباب وتطوع ثلاثة منهم للحراسة ريثما يأتي رجال الدورية العسكرية برفقة صاحب الدار ، ظل الشحاذ " جرس الكنيسة " مطروحا على الأرض ينزف دما من فمه وأنفه كما يتضور جوعا وقد استقر الوجع في كل مكان من جسمه ، في منتصف نهار اليوم التالي وصل رجال الدورية العسكرية وفتحوا الباب بحذر شديد لكي لا يفاجئهم قاتل الدجاجة لأن صاحب الدار قال في بلاغه عن الحادثة أن الشحاذ هاجمه بقوة لكنه استطاع أن يدافع عن نفسه وتخلص من خطره بمساعدة العمال ، ركل قائد الدورية جسد الشحاذ وهو يصرخ فيه أمرا :
- هيا انهض ...
لكن " جرس الكنيسة " ظل كما هو عاجزا عن الحركة ، حاول أن يتسلق عكازيه لكنه وجد نفسه لا يقوى على فعل ذلك ، ظن أفراد الدورية العسكرية أنه كذاب يتظاهر بالضعف يحتال كي يدبر أمرا ما ، ولهذا أطلقوا ضده عبارات التعنيف ، ثم رفعاه ليقف مجبرا على عكازيه ، أصابه خوف شديد كان يبدو مثل الطريدة التي أيقنت بدنوّ حتفها على يد قناص ماهر ، لكنه مع ذلك ظلّ متماسكا بصعوبة مستمرا في الوقوف ، ثم سمع أحد أفراد الدورية العسكرية يصرخ فيه :
- هيا تحرك ...!
صاحب الدار " شيكي " وبقية عمال المزرعة ورجال ونساء آخرين جاءوا من البيوت القريبة جميعهم شيعوه بنظرات الاحتقار ، تحرك أمام الدورية العسكرية بينما الوجوه جامدة تنظر إليه بغضب والأيدي ذات القبضات الغاضبة تلوح بالهواء ، وثمة ضحكات وعبارات ساخرة كانت تلاحقه ، أقساها عبارات الشماتة :
- وأخيرا تخلصنا من الكسيح هاهو يرحل ، لن نراه بعد الآن .. !
ابتعد جرس الكنيسة يحيط به أفراد الدورية العسكرية ، حاول استعادة قواه المنهارة والتجلد والمطاولة سحب جسده المتعب الموجع ، وعندما حلّ المساء حاول استعادة تفاصيل الذي حدث ، لم يفهم لماذا استخدموا ضده كل تلك القسوة أزال بعض الدماء اليابسة من جبهته ، شعرّ بأجفانه تنطبق وهو يحاول رؤية تفاصيل المكان الذي يتواجد فيه ، لكن صدى تلك الكلمات الشامتة تدوي في مسامعه :
- الكسيح ... السارق ... قاتل الدجاجة ...!
وصل الموكب إلى مبنى المحافظة ليلا ، وعندما نظر فيما حوله أدرك أنه لم يأت إلى هذه المنطقة من قبل ، الرعب يزداد في قلبه من تلك الأحداث الرهيبة المتتابعة التي حصلت ، لم يكن يتوقع أن تصل النتائج إلى هذا المنعطف الذي يبقى فيه مصيره مجهولا ، راح ينظر في الوجوه والمباني ن كل شيء هنا يبدو جديدا ، لم ينطق بكلمة واحدة ولم يكن لديه رأي فيما يجري يقوله أو موقف يسجل فيه احتجاجا ، هو في طبيعة الحال أبدا لا يفهم ما يدور من حوله ، ولا يعرف كيف يدافع عن نفسه بالكلمات ، منذ مدة طويلة لم يكلم أحدا عقله مشوشا عجز عن قول جملة واحدة لها معنى واضح ، في نهاية الأمر أودعوه السجن التابع للمحافظة ، آنذاك اختفت وجوه رجال الدورية العسكرية من أمامه ، وجد نفسه مرمي في زنزانة صغيرة لا أحد يشاركه مساحتها ، تمدد على الأرض ، وفي صباح اليوم التالي عندما حضرّ المحقق لتدوين أفادته وجده قد فارق الحياة ..!
ليست إلا قطعة وتر
مدينة " كودرفيل " الصغيرة تبدو في العمق ، سكان القرى المجاورة لها تتواصل حركتهم الصاخبة على منحنيات الطرق المحيطة بها ترافقهم زوجاتهم يتقدمون بسرعة واضحة للوصول إلى سوق المدينة ، اليوم أهم أيام الأسبوع على الإطلاق ، يوم التسوق الكبير ، تفاصيل ذلك المدّ البشري الزاحف نحو المدينة يتشكل من خطوات الرجال التي تبدو ثقيلة ومتعبة حركة أجسامهم تندفع إلى الأمام بشكل ميكانيكي رتيب بفعل كل حركة تؤديها تلك السيقان الطويلة المثبتة في أجسادهم ، كما تبدو الوجوه الموجودة في تلك الرؤوس التي تحملها الأجسام الغارقة في التعب بسبب بذل المجهود المتواصل خلال ستة أيام متداخلة مع بعضها ، تعج وقائعها بالأعمال الثقيلة من تلك التي تقصم الظهر - أعمال الحقول والزراعة والإسراف في الشهوات – يشاهد في تلك الطوابير مثلا فلاح يتقدم وهو يجر بقرة بحبل مربوط في رقبتها بينما زوجته خلف البقرة في يدها غصن شجرة مازالت أوراقه عالقة به ، تضرب مؤخرة البقرة برفق تحثها على الحركة ، كما تثير الغبار مجموعة من النساء يحملن سلالا كبيرة من الخوص متفاوتة في أحجامها وألوانها تظهر منها روؤس الدجاج والبط الجالس فيها ، النساء يتحركن بخطوات قصيرة لكنهن أكثر نشاطا من الرجال وأكثر مرحا من خلال الكلمات المتبادلة بينهن والضحكات القصيرة ، أصابعهن النحيلة بين فترة وأخرى لتلف أرديتهن وترفعها قليلا عن تراب الأرض ، تختلف تفاصيل المشهد كثيرا عند الوصول إلى ساحة " كودرفيل " هناك يتعاظم الهرج الكبير من خلال الأصوات الحادة والحركة غير المنتظمة ، لتلك الجموع الكبيرة المحتشدة من البشر والحيوانات التي جلبوها معهم ، الأصوات المتداخلة العالية الحادة المنطلقة في تلك المساحة من الأرض تصنع الضوضاء بشكل متواصل ، من بينها ترتفع بين حين وآخر صوت قهقهة عالية لصوت صاخب خشن ولكنها منطلقة من روح مرحة أو تتصنع المرح لسبب ما ، الرائحة التي تعبق في المكان هي أيضا مزيج من رائحة الأبقار ونفاياتها التي تطرحها والحليب المسفوح من أثدائها على الأرض ، ورائحة الأجساد التي تفرزها عادة أجساد الذين يعملون في المزارع أولئك الذين يتأخرون في غسل أجسادهم وثيابهم ، بين تلك الأمواج من الأجساد البشرية نرى الفلاح " كورن " القادم من قرية " برياوت " يتحرك متوغلا نحو وسط السوق وقد وصل قبل لحظات ، توقف لحظة عندما رأى قطعة وتر مطاط صغيرة على الأرض نصفها مدفون تحت التراب ، الفلاح " كورن " مثل بقية أبناء جلدته من الذين ينتسبون للنورمانديين المثاليين فيما يعتقدون ، هدفهم الأغلى هو ادخار القرش الأبيض لليوم الأسود ، هو يغالي أكثر عندما يعتمد فكرة مغالية كثيرا تقول أن أي شيء تجده وتلتقطه من الأرض قد يأتي يوم ما وتستثمره ، لهذا أنحنى وبصعوبة بالغة التقط قطعة الوتر المطاطي الصغيرة ورفعها من الأرض ، وفيما هو يحاول طيها رأى " خصمه اللدود " ملندين " صانع سروج الخيول ينظر إليه ويتابعه باهتمام من باب دكانه المفتوح على مصراعيه ، كان " كورن " قد أختلف ذات مرة مع صانع السروج " ملندين " على قضية هو يعدها تافهة وتسبب ذلك الخلاف في عدم لقائهما أو تواصل الحوار بينهما ، كلاهما يصرّ على صحة موقفه ولا يريد التراجع أو طي تلك الصفحة من الخلاف ، بالتأكيد أحدهما على صواب والآخر وقع في الخطأ ، شعر " كورن " بالخجل من نظرات غريمة التي بدت مثل نيزك ناري اخترق جسده ، خصوصا وقد أبصره وهو يرفع قطعة وتر مطاطي من أرض مليئة بالأوحال والأوساخ ، ذاك الذي رآه هو عدوه لذلك سارع بحركة خاطفة لإخفاء قطعة الوتر تحت ملابسه ومن ثم دسها في جيب سرواله ، بعد ذلك تحرك مبتعدا متظاهرا بالبحث عن شيء فقده في ذلك المكان ، مواصلا السير في طريقه باتجاه الدائرة الواسعة لساحة السوق من خلال تلك الانحناءة السريعة تعاظم ألم الروماتزم الذي يسكن في عظامه ، وسرعان ما ابتلعته دائرة الأجسام المتلاطمة في ذلك السوق حيث يسود الزحام الشديد والضوضاء الصاخبة وحركة أشخاص منشغلين بفحص الأبقار يتفاوضون في تفاصيل عقد صفقة بيع وشراء يستولي عليهم أحيانا التردد خشية أن يخدعوا مترددين وغير قادرين على اتخاذ القرار الحاسم ، يدورون حول البقرة وصاحبها في محاولة هدفها معرفة طريقة خداعه أو التوصل للتأكد من سلامة تلك الحيوانات من العلل والأمراض في تلك الحيوانات المعروضة للبيع بأسعار تبدو أحيانا غير معقولة ..!
النسوة من جانبهن أخرجن الدجاج والبط وسلال البيض وعرضن بضاعتهن على الأرض ، تلك الحيوانات الصغيرة تقف على سيقانها المشدودة إلى السلال التي وضعن في داخلها أحجار كبيرة كي لا تجرّ السلال أو تهرب ، في عيون تلك الحيوانات ظهر الرعب من تلك الحركة والأصوات ، فيما راحت النسوة يصغين للمزايدات التي يطلقها بعض المتعاملين ، تعالت أصوات النسوة وهن يرفضن الأسعار الهابطة المعروضة عليهن ، كانت وجوههن تبدو جامدة القسمات وتعابيرها قاسية يشوبها القلق والحزن ، لكنهن بعد ثوان وعندما ناقشن السعر المعروض عليهن بصمت مع أعماقهن المتعبة قررن الموافقة رغم أن السعر ليس هو الذي يحلمن بالحصول عليه ، ولكن قبل ضياع الفرصة وابتعاد المشتري يرفعن الصوت في أثره لكي يعود :
- لا تذهب .. دعنّا نتفاهم .. !
- تعال وخذها إذا رغبت .. !
- أنا موافقة على السعر ...!
بعد انحسار وقت ليس بالقليل يخف الزحام ، يذهب الذين تبعد بيوتهم عن مركز المدينة حيث المطاعم والحانات من يبحث عن وجبة شهية أو كأس أو سرير في فندق بينما تجمع كبار ملاك الأراضي وأصحاب الإقطاعيات من أرستقراطي الأرض المحروثة لدى التاجر الكبير " جوردون " صاحب أكبر الحانات في المدينة وأيضا هو تاجر الخيول والحبوب الذي يعرف الكثير منهم انه جمع ماله عن طريق خداعهم والاحتيال في صفقات تجارية كسب منها مالا كثيرا ، في ذلك المكان القديم الأنيق قدمت صحون وجبات الطعام الفاخر ، ثم أعيدت إلى جوف المطبخ الكبير فارغة ، تحدث الندماء عن أعمالهم وكيف سارت خلال الموسم المنصرم ، وكذلك عما اشتروا من سوق المدينة وعن الصفقات التي عقدت بينهم وبين " جوردن " ، دارت بعض الأسئلة فيما بينهم حول موسم الحصاد كما وجدوا ممرا في لحظات الهدوء لمناقشة وفرة المحصول بسبب كثافة الأمطار ، كما اشتكوا من الرطوبة التي سادت في الأيام الأخيرة والتي كادت تتسبب في إتلاف " بيادر " الحنطة ، في تلك الأثناء وعلى حين غرة أنطلق صوت إيقاع طبل صاخب في وسط الساحة الواسعة المواجهة لتلك الحانة حيث يتواجد " جوردون " مع ضيوفه ، الصوت المزعج جعل بعضهم ينهض ويتجه مسرعا نحو النافذة ، باستثناء بعض الذين دبّ الخدر في أوصالهم ولا شيء يهمهم سوى مواصلة شرب أقداح الجعة ، بينما اندفع الذين تركوا مقاعدهم نحو الأبواب المفتوحة ونوافذ الشبابيك ، أفواه بعضهم لما تزل ممتلئة بالطعام والبعض الآخر حمل كأس الشراب معه وراح يتابع تفاصيل تلك الضجة ، بدأ المنادي العسكري بعد أن توقفت ضربات الطبل وأخذ يقرأ إعلانا مكتوبا على صفحة ورقة طويلة يتوقف بين لحظة وأخرى بسبب أخطاء القراءة ، للذين يتابعون بدا أن تلك الضجة نوعا من الهراء ، ولكن تفاصيل النداء كانت موجهة لتحذير سكان " كوردفيل " وكذلك لكل الذين يتواجدون فيها من الذين وفدوا إلى السوق الكبير ، أهم ما ورد في ذلك النداء الآتي " لقد فقدت في هذا الصباح من يوم التسوق العظيم ، في طريق " بوزفيل " وذلك بين الساعة التاسعة – والعاشرة حقيبة جلدية تحوي خمسمائة فرنك ووثائق وأوراق عمل ، على من وجدها أو يجدها إحضارها إلى مبنى المحافظة لأنها تخص التاجر " هولبرك " هناك جائزة تنتظر من يفعل قيمتها عشرين فرنكا تقدم لمن يدلي بمعلومات مفيدة أو يعيدها إلى صاحبها " ،انتهى النداء الصاخب وتحرك المنادي ومن معه إلى مكان آخر وصارت ضربات الطبل تسمع في أماكن أخرى ، أخذ المتواجدون في الحانة يتجاذبون الأحاديث المتعلقة بتفاصيل الحقيبة المفقودة ، ويطرحون التمنيات ويجزمون إذا كان التاجر " هولبرك " محظوظا ستعود إليه المحفظة ، وعندما انتهى الجميع من تناول الغداء والشراب وكانوا يستعدون لمغادرة المكان فوجئوا بأحد رجال الشرطة العسكرية يدخل مقتحما المكان ثم يقف قرب الباب منتصبا كعمود كونكريت ويطلق سؤالا موجها للجميع :
- هل بينكم من يدعى " كورن "....؟
لم يتأخر " كورن " الجالس في مكان قصيّ من الطاولة الدائرية للبار يحتسي الجعة في الرد حيث قال :
- أنا " كورن " .. بماذا أستطيع أن أخدمك ...؟
رد العسكري :
- هل أنت مستعد لمرافقتي إلى مبنى المحافظة ...؟
قال " كورن " وقد طارت النشوة من رأسه :
- لماذا ...؟
رد العسكري :
- السيد المحافظ يريد التكلم معك ..!
بين الدهشة والاستغراب والقلق المتصاعد نهض الفلاح " كورن " وقد رشف بقية الجعة من كأسه على عجل ونهض محاولا أن يكون ظهره معتدلا رغم الآلام المبرحة التي يشعر بها من جراء عمل يوم التسوق ، تقدم نحو الرجل العسكري تشيعه نظرات الجميع ، ثم غادرا المكان ..
اجتاز باب مكتب المحافظ وقبل أن يتوغل في المكان المرتب الذي يمثل السلطة المركزية ، وجد المحافظ جالسا في كرسيه الوثير ذو المسندين ، ينظر إليه من خلال نظارته ، قال :
- أنا هنا ... أنا كورن .. أنا يا سيدي ...!
المحافظ وكما يعلم الجميع صعد من خلال سلك المحاماة ويعتبر في موقعه مهما ، قاسيا ومنصفا ومن الذين يحفظون الجمل البلاغية المؤثرة التي تقع بشكل مؤثر على مسامع من يتحدث إليه ، يوصف لدى العامة بأنه من أشهر الخطباء ، نظر إليه نظرة فاحصة وقال :
- يا سيد كورن ، لقد شاهدك أحدهم هذا الصباح تلتقط محفظة التاجر " هولبرك " التي فقدها في مكان من شارع بوزفيل ..!
قشعريرة وخوف وقلق مع لعثمة تلبسته وهو ينظر إلى المحافظ ولا يعرف كيف يرد ، كان يدرك أن ثمة خطأ أو اشتباها في التفاصيل قد حدث ، ولكن لا يعرف بالضبط كيف زج به في هذه التفاصيل غير الصحيحة ، صاحب السلطة العليا ينتظر الرد ، وهو وقع في لحظة التبلد ، استجمع قواه الذهنية وقال :
- أنا يا سيدي ...!؟ أنا التقطت محفظة التاجر هولبرك ..؟!
رد المحافظ بجفاف واضح وبلغة التحقيق :
- نعم أنت ...؟!
أجاب كورن :
- أقسم بشرفي يا سيدي أنني لا أعرف عن هذا الموضوع ، أنني في حيرة ماذا أقول ... كيف ...؟ ..
قال المحافظ :
- لكنك شوهدت في ذات الموقع ...!
أجاب بذهول مشوب بالغضب :
- من الذي شاهدني ...؟!
رد المحافظ بهدوء مباغت :
- صانع سروج الخيول ... ملندين ...
عندها تذكر العجوز " كورن " الأمر الذي حدث وفهم سرّ المعضلة التي وقع فيها ، كانت لحظة عصيبة احتقن وجهه فيها غضبا ولفه استغراب كبير كما حارّ في تفسير ما نسج له ، ثم تساءل بغضب :
- يقول ؛ هو شاهدني ألتقط الحقيبة ...!؟ هذا شيطان كاذب يا سيدي ، حقيقة الذي جرى مختلفة تماما ، هو شاهد يدي تلتقط هذه ..." مدّ كف يده إلى عمق جيب سرواله واستخرج منه القطعة الصغيرة وأضاف " أنظر يا سيدي أنها قطعة وتر صغيرة ...!
لكن المحافظ الباحث عن الحقيقة وعن جواب مقنع يفند ادعاء" ملندين " هزّ رأسه مبديا عدم اقتناعه بأقوال " كورن " وعدم تصديق روايته ، قال بلهجة قاطعة :
- لن تستطيع إقناعي بهذه الكلمات ... ملندين رجل موثوق لدينا ونعرفه صادقا فيما يقول وهو لن يخطي في التفريق بين حقيبة نقود وقطعة وتر مطاط صغيرة ، لن تستطيع إقناعي أبدا .. قل غير هذا الكلام .....!
أزداد غضب الفلاح " كورن " وقال :
- أقسم بالرب لم أقل غير الحقيقة .. بل قلت كل الحقيقة ...!
رد المحافظ ممارسا دور المحقق فقال :
- بعد التقاطك لمحفظة النقود ماذا حدث ...؟
رد " كورن " هو الآخر متسائلا :
- ماذا حدث يا سيدي ...؟
أجاب المحافظ على السؤال الذي طرحه هو وأعاده " كورن " :
- يقال أنك واصلت البحث في الوحل عدة دقائق أخرى ، ربما كنت متيقنا من أنك ستجد نقودا أخرى قد تكون سقطت من المحفظة ...!؟
بذات الغضب المتصاعد والشعور بالظلم رد " كورن " :
- بعض الناس فطروا على صنع الأكاذيب ورمي الرجل الشريف بها ، أكرر يا سيدي جميع ما سمعت عن تلك الحادثة محض كذب مقصود ..
لكن المحافظ لم يصدق العجوز " كورن " لذا طلب استدعاء " ملندين " الذي دخل فيما بعد كالطاووس وعندما رأى " كورن " كرر بهدوء وثقة اتهامه وشهد عليه حضوريا ، أنفجر الموقف عندما أطلق " كورن " على خصمه الشتائم واصفا إياه بالكذاب وفاقد الأخلاق رديء السمعة ، منع المحافظ كلاهما عن الكلام والتوقف عن التلاسن وطلب من حارسه الشخصي القيام بتفتيش العجوز " كورن " فعل الحارس ولكنه لم يعثر على المحفظة ، أمام الاتهام والرفض القوي وعدم وجود دليل مادي قاطع وقع المحافظ في حيرة واضحة وتبلبل في اتخاذ القرار ظل لفترة وجيزة حائرا ، لكنه تمهل في توقيع أية عقوبة على العجوز " كورن " وقبل أن يطلب منه مغادرة المكان حذره وقال له :
- سأرفع تقريرا بالحادثة إلى الجهات المختصة لتضعك تحت المراقبة وسنبقى نبحث عن محفظة النقود ...
لم يكد يضع قدميه خارج مبنى المحافظة حتى وجد الخبر قد أنتشر كما النار في الهشيم وجد الناس يحيطون به يدفعهم الفضول إلى معرفة التفاصيل كانوا يتساءلون ويستفسرون وهو يقوم برواية كل كلمة قالها ، أو سمعها من المحافظ ، روى لهم عن حادثة التقاط قطعة الوتر الصغير ، أين وجدها ، وكيف التقطها ، غير أن أحدا لا يصدق التفاصيل التي يقولها بل أغلب الذين استمعوا إلى حكايته كانوا يضحكون بسخرية مريرة متندرين من كلماته ، لم يتوقف الأمر عند هذا ، بل وجد نفسه في دائرة اهتمام وحصار شديد سببه فقدان المصداقية فيما يقوله الناس ، صار عندما يسير في الطريق يطلب منه البعض التوقف لكي يعيد على مسامعهم رواية التفاصيل بشكل ممل ، حتى انتقل عدوى تلك الحالة إليه ، أصبح هو الذي يعمد إلى إيقاف الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم لكي يقص عليهم التفاصيل طمعا في إثبات براءته أمامهم ولكي يوقع تلك التفاصيل يعمد إلى إخراج بطانة جيوب سرواله للتدليل أمام من يتحدث معه على خلوها ، لكنه مع ذلك يلمس عن كثب عدم الاقتناع بكلماته وكذلك عدم اليقين بروايته المحبوكة المطبوخة بالاحتيال ، بعضهم يطلق تعليقه الساخر قبل أن يتحرك :
- هذا هراء ، المحافظ لا يتورط في قضية غير متأكد من صدق تفاصيلها ، هو روح الحقيقة رجل حكيم وصادق ، أنت عجوز مخرّف ، تروي القصص كما يحلوّ لك ..
الساعات القليلة التي مرّت غيرت مزاجه ، صار يثور لأتفه الأسباب ، ولكنه كلما فكرّ في الذي حدث يدق في جدار رأسه أكثر من سؤال ، ماذا سيفعل لكي يثبت براءته .. وعندما حل الظلام واقترب موعد عودته إلى داره البعيدة ، توجه مع ثلاثة من جيرانه إلى حيث المكان الذي رفع منه الوتر المطاطي وظل يروي لهم التفاصيل دون توقف ، ومع ذلك لم يأخذوا كلامه على محمل الجدّ ، ولمّ يصدقوا أقواله ، في أول ليلة بعد الحادثة عيناه لم تعرفا الرقاد ، ظل يتخبط في دوامة كوابيس تنبع من حالة القلق التي يسبح فيها ، في اليوم التالي وعندما أنتصف النهار جاء رجل فلاح أسمه " ماريوس " وسلم محفظة النقود بما فيها إلى صاحبها " هولبرك " أرفق فعله بالإعلان عن تفاصيل العثور عليها في ذات الطريق الذي جاء في كلام التاجر ، ولأنه لا يعرف القراءة صعب عليه معرفة صاحبها لذلك استعان بشخص قريب سلمها إليه وذلك تسبب في تأخير تسليمها للسيد " هولبرك " ولكنها على كل حال قد عادت إليه دون العبث بمحتوياتها ، أنتشر خبر العثور على المحفظة سريعا ووصل إلى مسمع "كورن " الذي نسى آلام المفاصل وراح بحيوية كبيرة يلف الدروب ويطرق الأبواب ليروي القصة ويضيف لها النهاية التي صنعتها إرادة الرب ، معلنا دون تردد عن براءته ومستندا في ذلك إلى البرهان الذي ظهر الآن ، قال للذين احتشدوا من حوله :
- ما أزعجني ليس تهمة المحفظة المفقودة بل الكذب الذي ساد ، صدقني أيها السيد وأنت سيدتي الفاضلة لاشيء يؤلم بحجم وقوع النفس في الملامة والتقريع ، والسبب شخص عابث يقول كلاما كذبا ويرميك به ..!
ظل يكرر الحكم والمواعظ ويشير إلى خصمه اللدود غمزا دون ذكر أسمه ولكنه لا يغفل الحديث عن تفاصيل الذي جرى ، يعيد رواية الأحداث دون ملل وعندما يصل إلى ذكر المحافظ " يقول الرب لا يقبل بالكذب وليس مخبولا " سمعت جدران الحانات تلك الرواية عشرات المرات ، كل الذين خرجوا من فناء الكنيسة سمعوا الخبر ّ الجديد ، استوقف الغرباء من الذين وفدوا إلى القرية وقص عليهم النهاية بارتياح كبير ، كان يرصد الوجوه ويستمع إلى الكلمات ، أكتشف أن الذين يتحدث إليهم صاروا مثل التماثيل إحساسه يقول أنهم باتوا يعمدون إلى التسلية وهم يصغون إليه ويمتنعون عن إظهار مشاعرهم الخاصة أو تصديق روايته ، وتطور الأمر إلى أنه بات يسمع همسا هنا وهناك يدور خلف ظهره يشير إلى كذب ما يقول .. في الأسبوع التالي وفي يوم التسوق الكبير قصد سوق " كوردفيل " حيث حصلت الواقعة ، لم يكن يبيع أو يشتري بل لكي يروي قصته ونهايتها ، وفي ذات المكان رأى خصمه اللدود " ملندين " منتصبا عند باب دكانه مثل ثعلب كبير وما أن مرّ من أمامه حتى أطلق ضحكة كبيرة ساخرة سمعها كورن واستفزت كل حواسه ، توقف لحظة وقال مع نفسه :
- لماذا يضحك هذا الثعلب الماكر المتجني ..! ؟
ظل السؤال يدق جدار رأسه ولا يعرف الجواب أو تعليل الذي حدث ، أوقف مزارع من قرية " كريكتوت " لكن المزارع لم يمهله لحظة واحدة ، صرخ في وجهه بحدة :
- أيها الشيطان العجوز لا تردد على مسامعي ذاك الهراء ، أنت مخلوق مخادع ...!
تلك الكلمات القليلة المؤذية للنفس والعقل جعلته يسبح من جديد في بحيرة فضائها الارتباك والتخبط والحيرة المغلقة ، ثم أزداد القلق وتصاعد الخوف بشكل تدريجي وظلت كلمات الفلاح ونعته له بالعجوز الشيطان ، المخلوق المخادع ، تخترق قلبه مثل اختراق السيف ، وعندما جلس ليتناول غدائه في حانة المدينة صرخ به صاحب الحانة ليوقفه عن بداية رواية الذي حدث وقال :
- هراء أيها الشيطان العجوز ، أنا أعرف عن كثب ألاعيبك الصغيرة ، لن تستطيع تشويه سمعة السيد ملندين بقصة تافهة مثل قصة التقاط الوتر المطاطي ..!
رد بذهول كبير :
- ولكنهم عثروا على المحفظة لدى شخص آخر ...!؟
فجاءه الرد مثل صفعة قوية مدوية :
- أخرس ...! الرجل الذي أعاد محفظة النقود ليس بالضرورة أن يكون هو من وجدها ...!
لا حدود للدهشة التي تلبسته مع حالة ذهول توازي توقف العقل عن التفكير ، الآن أدرك وبشكل متأخر لماذا لا يزال الناس لا يصدقون روايته ، اتهامه لن يتغير هناك من يهمس وينفخ في العقول بأنه أقنع صديقا ما ليأخذ المحفظة ويعيدها دون أن يظهر على مسرح الحدث ، قرر أن يحتج ولكن عند من يحتج ومن يعير اهتماما لذلك الاحتجاج الجميع يغرقون في ضحكاتهم الساخرة بينما هو يتعذب ، ليس ثمة جدوى من تلك الفكرة ، قرر العودة إلى بيته رغم الغضب الكبير الذي صار يسد عليه منافذ الرؤيا ، الكآبة والغثيان والحزن كان يرى كل شيء من حوله موضوع بشكل مقلوب ، تذكر في أيام شبابه يعمد إلى المكر لكي يقنع الآخرين بصواب رأيه والعمل الذي ينوي القيام به ، لكنه الآن بدأ يدرك العجز الكبير لكي يثبت الحقيقة ويعلن براءته ، الشك المنفلت من عقال الظلم أحدث جرحا عميقا في نفسه ، من الصعوبة أن يتوازن الإنسان وهو يلبس ثوب الاتهام المصنوع من الباطل ، ولكنه قرر عدم التوقف عن رواية قصته والحقيقة التي يؤمن بها أينما ذهب ، بل صار يزيد عليها ويطعمها بمعلومات جديدة يستحدثها مثل مؤلف دراما محترف ، لكنه لم يستطيع نسيان حادثة قطعة الوتر المطاطي من تفكيره ، ولكن الأكثر تعقيدا وصعوبة مع الحياة المتبقية له دفاعه عن نفسه الذي صار معقدا للغاية هو الأكثر ضررا والأقل مصداقية ، يسمع كلمات قصيرة قاتلة :
- هو يسلك طرق ووسائل اللصوص والكذابين ...!
هكذا يقولون من وراء ظهره ، بل تمادى الجميع في الإفصاح عن أفكارهم والتصريح بها دون وجلّ ، آنذاك أيقن أن كل محاولاته في العمل على إثبات براءته هي ضرب من الخيال والوهم ، ارتدت تلك الهواجس عليه وبالا وتطورت حالته فصار أكثر هزالا وضعفا ونفورا من الناس والحياة ، أولئك البشر الذين خرجوا من جلودهم وصاروا يلتقون به ويطلبون منه رواية القصة كما لو كانت نكتة يضحكون لها ، وجد نفسه مثل محارب شارك في معركة ومنع من سرد تفاصيلها أو عدم تصديق تلك التفاصيل ، طار عقله من رأسه ، ومع تقادم الأيام ساءت أوضاعه وخاصة الصحية منها ، وفي أواخر الشهر نقلوه في يوم التسوق الكبير طريحا إلى الفراش ، ثم فارقته الحياة ، ومع أن الحمى كانت تغلق عليه الطريق ودفعته إلى الهذيان أمام الجميع ، لكنه كان يكرر على مسامعهم قصة براءته يقول لهم وعيناه الذابلتين تكادان تفران من مكانيهما وبصوت محتبس :
- صدقوني كانت قطعة وتر مطاطي صغيرة ، نعم ليست إلا قطعة وتر ... أنظروا هاهي ستبقى معي
شمس في قبعة
شعر : خليل الاسدي – العراق
تأتي لنا الشمس وفوق رأسها قبعة مربعة
وحين تمضي تنزع القبعة المربعة
والنهر يسقي مزرعة
ودائما يشير لي كي اتبعه
وحينما قلت توقف
يا ايها النهر الجميل
أخذني النهر معه
وكانت الشمس تشير لبيتنا
فالشمس تهوى أربعة
أبي وأمي وأنا
والرابعالبيت الذي كان يضم الأربعة
أمي تقول أنها شمس الوطن
أبي يقول أنها حياتنا مجتمعة
والبيت قال أنها البيت الذي
تسكنه كل بيوت المزرعة
لكنني رايت في الشمس الفصول الأربعة
والشمس تهوى أربعة
أبي وأمي وأنا
والرابع البيت الذي كان يضم الأربعة
في مسرح الأوبرا
شعر : شيانغ يونك- مي – الصين
ترجمة – عبد اللطيف الأرناؤوط – العراق
في هذا العام
نحتفل بيوم الأطفال
أخذتني جدتي
كي أشاهد تمثيلية يعرض فيها ثوار عصرنا
فنون القتال والنضال
وهكذا أتعلم على المسرح
من هؤلاء البطال
كيف اقاتل
دفاعا عن الوطن
أغنية إلى أمي
شعر : تسفتيان أنجلوف
ترجمة : عبد اللطيف الأرناؤوط – العراق
في هذا العام ، لأجلك تتفتح أكمام الزهر ،
ولك تنجلي السماء عن زرقتها الآن ،
وأنا أمامك مدين لك بالجميل ،
مدين لروحك العامرة بالمحبة والقوة
للطفك ودأبك الذي لا يعرف التعب ،
لثبات جآشك المنصف العادل ،
أرى وسادتي الأنيقة ، كيدك التي تبرد جبيني المتأجج بالنار ،
أرى عينيك المفعمتين دهشة أو مرحا،
أو قلقا على ولدك الصغير
مرت السنوات
وكبرت أنا اليوم
تزوجت وصار لي أولاد
وأنت ما تزالين ساهرة على راحتي
ماتزالين تجهزين لي أبريق الشاي
تقدمين لأولادي ولزوجتي
ماقدمته لي ،
من أجل هذا أغني لك اليوم
من أجلك ،
تبرعم الأشجار،
وتنفتح الأزهار ،
في هذا الربيع الجديد
المفتاح
شعر فاروق يوسف – العراق
أخذت القطة المفتاح
وفتحت باب المدينة
في المدينة توجد القرية
وفي القرية يوجد شارع
وفي الشارع بيت جميل
وفي البيت سرير
فوق السرير سلة
في السلة باقة زهور
جلست القطة فوق السرير
واقتربت من السلة
شمت الزهور
ونامت ...!
ليليان هيليمان
مواجهة مفتوحة ضد انحراف الفكر في الجنس والتجارة والقانون وفواصل أخرى … د . شاكر الحاج مخلف
“ L . Hellman " أشهر كاتبة مسرحية تعيش اليوم في الولايات المتحدة وقد وضعت خطواتها على طريق الشهرة عندما كتبت في العام 1934 أولى رواياتها المسماة "ساعة الأطفال-THE CHILDREN'S HOUR " والتي قدمت على مسرح بردواي وحصلت على نجاح منقطع النظير وظلت تعرض موسمين متتاليين، وفكرتها بسيطة للغاية، فهي تدور حول إشاعة خبيثة وكاذبة ولكنها مدمرة، روجتها فتاة هندية عن مدرستين-
تديران مدرسة للبنات اتهمتهما فيها بأن لهما علاقات جنسية شاذة وشائنة مما ترك أسوأ الآثار في أذهان أولياء أمور الطلبة الصغار الذين في النهاية اتخذوا قرارهم بسحب بناتهن من تلك المدرسة التي أغلقت أبوابها على اثر ذاك القرار، تقول الكاتبة " ليليان هيلمان ": اقتبست فكرة
الروايةوحدثها المباشر من التقارير التي كتبها المحقق " وليم رفهد "عن المحاكمات الاسكتلندية القديمة، ومما جاء في ذاك التقرير ولفت نظري موضوعا يتعلق ببعض الحوادث التي وقعت في العام 1830 ، والمتضمن نجاح فتاة هندية بتدمير إحدى المدارس البريطانية…
المؤلف والتفاصيل
ضاق النقاد ذرعا بقصة تلك الرواية واستكثروا على الكاتبة اهتمامها بتلك التفاصيل الدقيقة ، وأختيارها لموضوع في غاية الحظر الاجتماعي آنذاك، ولكنه في حقيقة الأمر يمرر الكثير من المفاهيم التي تصدم المتلقي وتجعله مطالبا بإعادة تشكيل الرؤيا والموازنة على خلفية اهتزاز القيم والأفكار البالية ، ومع أن الرواية المسرحية اعتمدت منهج التحليل النفسي العميق منطلقة من فرضيات "فرويد " في المسألة الجنسية ونجحت إلى حد كبير في البرهنة على صحة الفرضيات التي اعتمدتها لكن الموقف منها ظل سلبيا إلى حد كبير، خصوصا لدى أساطين النقد الأدبي والمسرحي كما حصل في كتابات "Allardyce nicoll " أشهر النقاد في الولايات المتحدة ، والذي ضاق بموضوعها ولم يتفق مع الكاتبة بوجود كل ذاك الشر والافتراء لدى طفلة صغيرة ، ولكن المسرحية بتفاصيلها المقبولة والمرفوضة أصبحت علامة هامة وكبيرة في مسار التفكير العقلاني الهادف إلى التصادم الحاد مع المفاهيم القديمة التي تشكل عائقا أمام إرساء العلاقات الجديدة ، تقول الكاتبة في حوار مع " R . Van Gelder "أكبر النقاد في جريدة النيويورك تايمز ":ضربت في روايتي تلك على ذات النغمة التي أثرتها في روايتي "Watch On The Rhine "- الرقابة على نهر الراين " تلك الرواية التي ضمنتها فكرة تلك الرواية، وهي الفكرة التي أخشى ألاتكون فكرة هامة ولاشائقة، أن ثمة مدينة أمريكية صغيرة في الجزء الأوسط من غرب الولايات المتحدة ، هي مدينة عادية ، أوقل إنها مدينة منعزلة قليلا أن لم تكن عادية أو كغيرها من المدن ، وكانت الحضارة الأوربية تأخذ سبيلها إلى تلك المدينة في صحبة زوج وزوجة أوربيين من ذوي الألقاب توقفا فيها قليلا وهما في طريقهما إلى الشاطئ الغربي ، ولقد عرضت لي فكرة أثارتني تماما ، لقد فكرت في استبقاء هذين الثعلبين الأوربيين للعمل في تلك المدينة ، لكني ما كدت أشرع في كتابة روايتي على هذا الأساس حتى رأيتني أقف ، ولا أستطيع المسير، لقد كانت بداية طيبة ، لكن العربة لم تلبث أن توقفت وأنغرست في الرمال، وهكذا وجدت الطريق إلى التغيير في الأفكار وبناء تفاصيل أخرى ووجدت نفسي في فضاء عمل مختلف هو " ساعة الأطفال.."
سياسة في المسرح
ليليان هيلمان المولودة في العام 1904 في مدينة أورليان، تعلمت في جامعتي نيويورك وكولرج ، بدأت حياتها الأدبية كقارئة نصوص ثم متحدثة عن الكتب المهمة على صفحات الصحف الكبرى أو في برامج سمع بصرية ، وتحولت فيما بعد إلى كتابة القصص والروايات السينمائية والمقالات المتأرجحة بين النقد والاستعراض ، وفي تلك السنوات التي سبقت ظهورها ككاتبة محترفة ، كانت الدراما والنتاج الأدبي الأمريكي في أوج ازدهاره من خلال نتاج الكتاب " اوجين أونيل وثورنتون وايلدر وماكسويل أندرسون وروبرت شيرود وكوفمان هارت وتينسي وليامز وارثر ميللر وكليفورد اوديتس " اعمالهم الأبداعية الأدبية في مجال الكوميديا والتراجيديا شكلت فتحا كبيرا وتأسيسا مهما لمصادر الثقافة الجديدة في العصر الحديث ، أولئك الكتاب وغيرهم تأثروا بمجمل الأحداث السياسية التي وقعت ضمن تفاصيل المراحل الزمنية التي عاشوها ، فقد تركت الحرب العالمية الأولى ظلالها على الكثير من النتاجات الأدبية التي طرحت فكرا ورؤى في غاية الموقف التقدمي الإنساني الذي يخشى على مصير البشرية ويطالب بتأمين الحماية والآمن والسلام لكل الدول الضعيفة وتطوير فاعلية الإنسان لكي ينعم بالحياة الحرة الكريمة ، كما وجد الركود الاقتصادي وتيارات الفقر والتدهور الصحي والبيئي ، مساحة كبيرة رسم الكتاب فيها طموحاتهم وتصوراتهم ومدى أحلامهم التي ينشدون ، ثم انتقلت الكتابات عموما لتصبح تحت مظلة الحرب العالمية الثانية وأفرازاتها وشبح الخوف الذي رافق الاكتشافات العلمية ذات التدمير الكبير ، وبعد عبور النصف الأول من القرن المنصرم تبدو هموم الكتاب منحصرة في أحداث ذات طابع مختلف من قبيل اغتيال الرئيس الأمريكي كندي وشبح الصراع بين أمريكا والاتحاد السوفيتي وأزمة الصواريخ الكوبية والحرب الفيتنامية وتمرد الطلاب عام 1960 وبدايات الخطر النووي ، وهكذا تلونت تلك النتاجات بهموم العصر السياسية وان كانت بشكل غير مباشر وأحيانا بشكل مباشر ، لقد عبر الكتاب عن نزعات إنسانية ومواقف مسئولة عن المصير البشري وعن حماية هذا الكوكب من التدمير والتلوث ونقبوا بعين ثاقبة في تراكم العادات والتقاليد السائدة في المجتمع الأمريكي ، وهكذا تبوء العديد منهم منصة العالمية وحاز على ارفع الجوائز في مجال الإبداع الفكري والأدبي والفني ..
ليليان هيلمان
موقعها في الأدب بشكل عام والمسرح بشكل خاص كرائدة من الرواد وهي لاتقل مكانة عن أوجين أونيل الحاصل على نوبل للآداب وقد سيطرت على الموقع المتصدر للمسرح والآداب خلال النصف الأول من القرن الماضي وظلت تأثيراتها واضحة في العديد من النتاجات الأدبية والمسرحية اللاحقة وخاصة لدى العنصر النسائي ، كتبت أعمالا أدبية ومسرحية جريئة جدا هزت الكثير من القيم السائدة آنذاك وتصدت بشجاعة للكثير من المواقف السياسية والفكرية وكانت مسرحياتها في حالتي القراءة والتمثيل تثير التصادم والاختلاف ، أفكارها واضحة قوية وغير مهادنة وتثير الدهشة وعلى بساطتها تترك انطباعا ممزوجا بتساؤلات كثيفة عن إمكانياتها الكبيرة في خلق بانو راما في فضاء الدراما من موضوع لا يستطيع كاتب آخر الولوج أليه ، وهذا التفرد هو الذي أعطى ليليان هيلمان المكانة الكبيرة والمتميزة والمؤثرة ، ولقد ظل التقييم متقاربا بينها وبين كليفورد اوديتس ، كلاهما يسخر أفكاره لكي يرسم النظرة المتفائلة ذات الآمال الجميلة لمستقبل الجنس البشري ، وأذ كان أوديتس قد حقق نجاحا باهرا في كتابة المسرحية الاجتماعية وفق رؤى معاصرة ، فقد ظهرت هيلمان إلى جانبه ندا قويا له اتجاهات ذات خصوصية ، ومع الإنجاز الأول أكدت دون ريب أنها تعرض في إطار مسرحي فكرا يمتاز بالشفافية والوضوح والنضج الملحوظ في الشكل والمضمون وعلى الرغم من التأثيرات الكبيرة والتي حملت التغيير المباشر في القوانين والعادات والسلوك ، ظل مؤلفو المسرحيات يمارسون ذات النفوذ المؤثر وهم يدركون ويشاهدون حجم التغيير الذي تتركه أعمالهم على مجمل أطر الحياة والمجتمع ، ولعل أوفر المؤلفين المسرحيين فيما بعد الحرب نصيبا من الاحترام ، " تنسي وليامز وآرثر ميلر، اللذان أحرزا أول خطوات نجاحهما بمسرحيات كتبت في ظلال سنوات ما قبل الحرب ، كما هي الحال في مسرحية " - معرض الحيوانات الزجاجية T he Glass M enagerie"أو مسرحية الكاتب ارثر ميللر- كلهم أبنائي "…
الثعالب الصغيرة
في مسرحيتها"The Little Foxes" تواجه بنقد شديد ولاذع ومكشوف الأفكار والقيم السائدة والتي تعتبرها متخلفة وتعيق مجرى الحياة الصاعدة إلى بوابات جديدة والطامحة إلى بلوغ غايات المدنية والحضارة والوصول إلى الإنسان الأنموذج ، الحوار وكذلك التعبير الدرامي النافذ بشدة وصرامة وتوصيف دقيق إلى مصدر الأزمة التي يواجهها قسرا المجتمع البشري من جراء سوء التدبير والاستغلال للمال والمركز ولمصدر القوة بشكل ينم عن تخلف وجهل ، يرى الناقد"William Wright ": لقد كشفت ليليان هيلمان بإقدامها على كتابة المسرحية بالذات عن رغبتها في حدوث تغيير في القيم الشائعة " وثمة ناقد آخر هو "Richard Poirier "يقول :أن حبكة العمل الدرامي في الثعالب الصغيرة لاتقدم آية فكرة تطمئن إلى أن هذا التغيير سيقع في الغد القريب" وهذا في حقيقة الأمر يتعارض مع المنهج الذي تنطلق منه ليليان هيلمان التي ترى أن التغيير مهما تأجل حدوثه فهو آت لاريب ، وعلى الأفكار أن ترسم له المسار الصحيح والقريب ، وإذا توقفنا لحظة عند رأي الناقد الكبير"الآن .أس .داونر " الذي يرى أن الكاتبة هي اكثر واقعية من غيرها عندما تتحدث عن الآمال العريضة التي يتوقعها الجنس البشري من التقدم الصناعي والتكنولوجي وذلك واضح في مسرحيتيها " ساعة الأطفال والثعالب الصغيرة " اللتان تعتبران اجمل ما كتبت حيث قدمت فيهما نماذج اجتماعية لها ارتباط وثيق بفكر وفلسفة واتجاهات الحياة في تلك الفترة" ، وتدور أحداث الثعالب الصغيرة في الجنوب ضمن فاصل زمني يشير إلى أن بداية القرن هي العلامة المقصودة ، والشخصية المحورية والتي تؤجج الصراع هي امرأة هائلة الطموح تسعى إلى الثراء بشتى الوسائل ، تدفعها تلك الرغبات الجامحة للاستيلاء على مشروع تجاري وتسلك لتحقيق هدفها الخفي والمعلن فيما بعد ، عدة طرق قاسية ، جشعها يدفعها إلى عدم إحضار دواء لزوجها المحتضر وبهذا تصبح قطبا مهما تتحرك لتدافع عن نفسها وتثأر من تلك الأزدراءات التي تلاحقها من تلك العائلات الأرستقراطية التي كانت تعاملها فيما مضى ، ذاك الجشع المذهل يفقدها حب ابنتها ، ويدب الخراب الكبير في مشاعرها الإنسانية فتتحول إلى نموذج شوهته الأطماع واستكان إلى ذاك الجشع الهائل ، لقد حشدت الكاتبة الكم الهائل من مشاهد القسوة ذات التأثير الشديد لدى المتلقي ، نادرا ما وجد الشر المادي المستند إلى عوامل القبح البشري تجسيدا كالذي ظهر في بطلة الثعالب الصغيرة…
الانحراف والفكر والتجارة
أن النماذج الاجتماعية التي ظهرت في مسرحيات ليليان هيلمان ظلت دائما تستحق الكشف والمتابعة وهي قريبة تماما من رصد أجواء المفسدين والسماسرة الذين يشكلون في حالات التجريد أوضاعا سياسية وتجارية ومراحل من التخريب الاقتصادي والإنساني ، تلك الصور تجتذب الطبقات المختلفة عند تقديمها في المسرح أوفى عموم النتاج المقروء بغض النظر عن مستوى تلك النتاجات والتي كان يغلب عليها عموما الموقف الهادف والجهد الباحث ضمن حالات الرصد والمتابعة والكشف ، بما يقربها من الدخول إلى الينابيع المؤثرة في الاتجاه الإنساني بشكل خاص ، تجسدت في كتابات ليليان هيلمان دعوات واضحة إلى مناقشة هموم العصر ومشاكل الإنسان ومثلت بذلك تيارا مهما في الأدب العالمي ، " ومع أن مسرحيتها الأولى لم تحدث ضجة ذعر جماعية لكنها لم تكن تفتقر إلى تأثير كتأثير الصدمة القوية " شكلت كتابات ليليان دراسة أليمة لجبروت المسنين والموسرين بما يؤدي إلى تأثيرات حادة على الشباب والفقراء ، ابتكرت الكاتبة لعرض هذا الموضوع حبكة درامية تعتمد على مزاعم عن حب شاذ بين امرأتين ، تلك القصة اجتذبت ذوي الفضول والباحثين عن كل موضوع غريب ، بيد أن الجميع ممن كانوا يتصورون عرض الأفعال الشاذة على خشبة المسرح صدموا عندما وجدوا هيلمان تعالج القصة بطريقة لا تثير الأحاسيس والفكرة تقوم على حكاية في غاية البساطة " شابتان تناقلت الشائعات حبهما تحاولان أن تديرا مدرسة داخلية صغيرة للبنات، ولابد أن تحسبا نفقاتهما بعناية وحرص ، لقلة مالهما ، ولاتلبث تلميذة عصابية ، عديمة الضمير ، أن تشرع في التهامس عنهما ، ومع أن همسها يقوم على قرينة جد ضعيفة ، فإنه كاف لأن يدمر الشابتين ، إذ أن جدة الطفلة سيدة ذات نفوذ في المنطقة تصدق الأكذوبة وتروج لها، تصفها هيلمان في مذكراتها على النحو التالي":هي عجوز غنية ، من جيل أعتاد أن يفرض ما يشاء ، وان يخلق الحقائق وفق هواه ، وتكشف نهاية الأحداث عن مدى نفوذها ، وتقر إحدى فريستي الأكذوبة بأنها كانت تشعر من عهد طويل بتعلق عاطفي بصديقتها ، وإن لم يحدث أي شيء جنسي صريح ، لاتجد مخرجا إلا في الانتحار ..
إنجازات الماضي
منذ البداية أدركت ليليان هيلمان أن مواصلتها للإنتاج الدرامي الأدبي يجب أن يكون ذات صلة وثيقة بتلك الدعوات السابقة التي طرحتها نتاجات الأدب الأمريكي عموما وهي التي كانت تدعو إلى إشاعة الحرية والتمرد والمواجهة إلى حد التصادم المريع مع المصطلح الاجتماعي المتخلف وعدم الاستكانة للقيم والأخلاق المتوارثة ولهذا شكلت كتاباتها مثل"The Children's Hour\ Days toCome\ The Little Foxe \ Watch on the Rhine \Another Part Of the Forest \ The Autumn Garden "نمطا جديدا لتلك الأفكار التي أثارتها كتابات الماضي في المسرحيات والروايات ودواوين الشعر، تلك التي كتبت بدافع بعيد عن التسلية والإمتاع ، بل كانت هي تهدف إلى مناقشة الأفكار التي في الغالب تتصل بشكل مباشر بالأوضاع الاجتماعية والسياسية وعموم مشكلات الإنسان المعاصر ، لقد اجتهدت في بناء درا مات مضيئة ذات تجربة إنسانية حية المضمون والشكل وبذلك أخذت تتوسع لديها دائرة الإبداع لتحلق في الفضاء الواسع باحثة عن المجال الخصب لمناقشة مشاكل العصر المعقدة ذات الحس الإنساني،لقد وجدت هيلمان أن تجاربها الإبداعية تقترب من تلك التجارب الرائدة والتي وسمت الأدب والثقافة الأمريكية كما لدى أونيل وميلر ووليامز وأوديتس" وصف الناقد مالكولم جولنشتاين كتاب مرحلة الثلاثينات في أمريكا ، بأنهم قلة من أهل الفكر ولكنهم قادرون على خلق دراما ذات أهداف جديدة ومنشطة لحركة المسرح والأدب العالمي " أن عوامل الاحتجاج الاجتماعي المتزايد كشفت أمام الكاتبة وغيرها من الكتاب آفاقا جديدة للتصادم مع القيم والموروثات الاجتماعية ونظم القوانين البالية، وأعتمدت أيضا إشاعة سبل المواجهة الحازمة في إثارة النقمة الكبيرة على صور التطرف المادي ومظاهر الظلم والاستغلال، وفتحت المجال واسعا لأشرعة التقدم الاجتماعي وظلت تواصل المناداة بكبح تلك العوائق المستترة والتي تستند في بعض ركائزها إلى فقرات قانون رديء مستورد.
فواصل أخرى
أن التمعن العميق بنتاج كتاب من أمثال "ماكسويل اندرسون، آس . ان .بيرمان، وروبرت شيرود" يوضح وجود التعبير الدقيق عن الاتجاه التقليدي والمحافظ للطبقة الوسطى ، ولذلك حفلت أعمالهم الأدبية الهامة بنكهة مأساوية وطابع جدي في مناقشة المشاكل والهموم الإنسانية ، ولقد تمثلت في أغلب الشرائح التي تجسد أعمالهم الأدبية نماذج الطبقة الوسطى حتى أن النقاد اعتبروا تلك الأعمال الأدبية على اختلاف المضامين التي تناولتها تمثل البديل الموضوعي لتلك النماذج الأدبية التي ظهرت في القرن الثامن عشر ، فمسرحية وليامز " معرض الحيوانات الزجاجية " وكذلك مسرحية أرثر ميلر "كلهم أبنائي " استهدفتا التوترات التي نشأت في فضاء العائلة وناصرتا حق الشباب في التمرد على دنيا آبائهم المرتبكة" أن كتاب الثلاثينات أومايطلق عليهم كتاب الضائقة الاقتصادية كانوا يتساءلون: ماذا يفيد الإنسان، إذا هو كسب الدنيا بأسرها وخسر نفسه"…
تجارب أدبية أخرى
ذات المضمون الذي تناولته في ساعة الأطفال والثعالب الصغيرة أعادت مناقشته في إطار جديد في مسرحية " السهر على نهر الراين" والتي اقتبس عنها فيلم سينمائي وقد كرست لفضح الفاشية الهتلرية وأخطارها على الوجود البشري ثم ظهرت مسرحيتها" آلا عيب في الصندرة"وذلك في العام 1960 والتي تعد مزيدا من إلقاء الضوء على العلاقات الأسرية المعقدة وتلك المسرحية حصلت على جائزة نقاد المسرح الأمريكي ، وصدرت لها أيضا"ثلاثة مجلدات من مذكراتها الخاصة والتي حصلت على إعجاب الكثيرين وهي على التوالي"امرأة لا تقهر.....!
تديران مدرسة للبنات اتهمتهما فيها بأن لهما علاقات جنسية شاذة وشائنة مما ترك أسوأ الآثار في أذهان أولياء أمور الطلبة الصغار الذين في النهاية اتخذوا قرارهم بسحب بناتهن من تلك المدرسة التي أغلقت أبوابها على اثر ذاك القرار، تقول الكاتبة " ليليان هيلمان ": اقتبست فكرة
الروايةوحدثها المباشر من التقارير التي كتبها المحقق " وليم رفهد "عن المحاكمات الاسكتلندية القديمة، ومما جاء في ذاك التقرير ولفت نظري موضوعا يتعلق ببعض الحوادث التي وقعت في العام 1830 ، والمتضمن نجاح فتاة هندية بتدمير إحدى المدارس البريطانية…
المؤلف والتفاصيل
ضاق النقاد ذرعا بقصة تلك الرواية واستكثروا على الكاتبة اهتمامها بتلك التفاصيل الدقيقة ، وأختيارها لموضوع في غاية الحظر الاجتماعي آنذاك، ولكنه في حقيقة الأمر يمرر الكثير من المفاهيم التي تصدم المتلقي وتجعله مطالبا بإعادة تشكيل الرؤيا والموازنة على خلفية اهتزاز القيم والأفكار البالية ، ومع أن الرواية المسرحية اعتمدت منهج التحليل النفسي العميق منطلقة من فرضيات "فرويد " في المسألة الجنسية ونجحت إلى حد كبير في البرهنة على صحة الفرضيات التي اعتمدتها لكن الموقف منها ظل سلبيا إلى حد كبير، خصوصا لدى أساطين النقد الأدبي والمسرحي كما حصل في كتابات "Allardyce nicoll " أشهر النقاد في الولايات المتحدة ، والذي ضاق بموضوعها ولم يتفق مع الكاتبة بوجود كل ذاك الشر والافتراء لدى طفلة صغيرة ، ولكن المسرحية بتفاصيلها المقبولة والمرفوضة أصبحت علامة هامة وكبيرة في مسار التفكير العقلاني الهادف إلى التصادم الحاد مع المفاهيم القديمة التي تشكل عائقا أمام إرساء العلاقات الجديدة ، تقول الكاتبة في حوار مع " R . Van Gelder "أكبر النقاد في جريدة النيويورك تايمز ":ضربت في روايتي تلك على ذات النغمة التي أثرتها في روايتي "Watch On The Rhine "- الرقابة على نهر الراين " تلك الرواية التي ضمنتها فكرة تلك الرواية، وهي الفكرة التي أخشى ألاتكون فكرة هامة ولاشائقة، أن ثمة مدينة أمريكية صغيرة في الجزء الأوسط من غرب الولايات المتحدة ، هي مدينة عادية ، أوقل إنها مدينة منعزلة قليلا أن لم تكن عادية أو كغيرها من المدن ، وكانت الحضارة الأوربية تأخذ سبيلها إلى تلك المدينة في صحبة زوج وزوجة أوربيين من ذوي الألقاب توقفا فيها قليلا وهما في طريقهما إلى الشاطئ الغربي ، ولقد عرضت لي فكرة أثارتني تماما ، لقد فكرت في استبقاء هذين الثعلبين الأوربيين للعمل في تلك المدينة ، لكني ما كدت أشرع في كتابة روايتي على هذا الأساس حتى رأيتني أقف ، ولا أستطيع المسير، لقد كانت بداية طيبة ، لكن العربة لم تلبث أن توقفت وأنغرست في الرمال، وهكذا وجدت الطريق إلى التغيير في الأفكار وبناء تفاصيل أخرى ووجدت نفسي في فضاء عمل مختلف هو " ساعة الأطفال.."
سياسة في المسرح
ليليان هيلمان المولودة في العام 1904 في مدينة أورليان، تعلمت في جامعتي نيويورك وكولرج ، بدأت حياتها الأدبية كقارئة نصوص ثم متحدثة عن الكتب المهمة على صفحات الصحف الكبرى أو في برامج سمع بصرية ، وتحولت فيما بعد إلى كتابة القصص والروايات السينمائية والمقالات المتأرجحة بين النقد والاستعراض ، وفي تلك السنوات التي سبقت ظهورها ككاتبة محترفة ، كانت الدراما والنتاج الأدبي الأمريكي في أوج ازدهاره من خلال نتاج الكتاب " اوجين أونيل وثورنتون وايلدر وماكسويل أندرسون وروبرت شيرود وكوفمان هارت وتينسي وليامز وارثر ميللر وكليفورد اوديتس " اعمالهم الأبداعية الأدبية في مجال الكوميديا والتراجيديا شكلت فتحا كبيرا وتأسيسا مهما لمصادر الثقافة الجديدة في العصر الحديث ، أولئك الكتاب وغيرهم تأثروا بمجمل الأحداث السياسية التي وقعت ضمن تفاصيل المراحل الزمنية التي عاشوها ، فقد تركت الحرب العالمية الأولى ظلالها على الكثير من النتاجات الأدبية التي طرحت فكرا ورؤى في غاية الموقف التقدمي الإنساني الذي يخشى على مصير البشرية ويطالب بتأمين الحماية والآمن والسلام لكل الدول الضعيفة وتطوير فاعلية الإنسان لكي ينعم بالحياة الحرة الكريمة ، كما وجد الركود الاقتصادي وتيارات الفقر والتدهور الصحي والبيئي ، مساحة كبيرة رسم الكتاب فيها طموحاتهم وتصوراتهم ومدى أحلامهم التي ينشدون ، ثم انتقلت الكتابات عموما لتصبح تحت مظلة الحرب العالمية الثانية وأفرازاتها وشبح الخوف الذي رافق الاكتشافات العلمية ذات التدمير الكبير ، وبعد عبور النصف الأول من القرن المنصرم تبدو هموم الكتاب منحصرة في أحداث ذات طابع مختلف من قبيل اغتيال الرئيس الأمريكي كندي وشبح الصراع بين أمريكا والاتحاد السوفيتي وأزمة الصواريخ الكوبية والحرب الفيتنامية وتمرد الطلاب عام 1960 وبدايات الخطر النووي ، وهكذا تلونت تلك النتاجات بهموم العصر السياسية وان كانت بشكل غير مباشر وأحيانا بشكل مباشر ، لقد عبر الكتاب عن نزعات إنسانية ومواقف مسئولة عن المصير البشري وعن حماية هذا الكوكب من التدمير والتلوث ونقبوا بعين ثاقبة في تراكم العادات والتقاليد السائدة في المجتمع الأمريكي ، وهكذا تبوء العديد منهم منصة العالمية وحاز على ارفع الجوائز في مجال الإبداع الفكري والأدبي والفني ..
ليليان هيلمان
موقعها في الأدب بشكل عام والمسرح بشكل خاص كرائدة من الرواد وهي لاتقل مكانة عن أوجين أونيل الحاصل على نوبل للآداب وقد سيطرت على الموقع المتصدر للمسرح والآداب خلال النصف الأول من القرن الماضي وظلت تأثيراتها واضحة في العديد من النتاجات الأدبية والمسرحية اللاحقة وخاصة لدى العنصر النسائي ، كتبت أعمالا أدبية ومسرحية جريئة جدا هزت الكثير من القيم السائدة آنذاك وتصدت بشجاعة للكثير من المواقف السياسية والفكرية وكانت مسرحياتها في حالتي القراءة والتمثيل تثير التصادم والاختلاف ، أفكارها واضحة قوية وغير مهادنة وتثير الدهشة وعلى بساطتها تترك انطباعا ممزوجا بتساؤلات كثيفة عن إمكانياتها الكبيرة في خلق بانو راما في فضاء الدراما من موضوع لا يستطيع كاتب آخر الولوج أليه ، وهذا التفرد هو الذي أعطى ليليان هيلمان المكانة الكبيرة والمتميزة والمؤثرة ، ولقد ظل التقييم متقاربا بينها وبين كليفورد اوديتس ، كلاهما يسخر أفكاره لكي يرسم النظرة المتفائلة ذات الآمال الجميلة لمستقبل الجنس البشري ، وأذ كان أوديتس قد حقق نجاحا باهرا في كتابة المسرحية الاجتماعية وفق رؤى معاصرة ، فقد ظهرت هيلمان إلى جانبه ندا قويا له اتجاهات ذات خصوصية ، ومع الإنجاز الأول أكدت دون ريب أنها تعرض في إطار مسرحي فكرا يمتاز بالشفافية والوضوح والنضج الملحوظ في الشكل والمضمون وعلى الرغم من التأثيرات الكبيرة والتي حملت التغيير المباشر في القوانين والعادات والسلوك ، ظل مؤلفو المسرحيات يمارسون ذات النفوذ المؤثر وهم يدركون ويشاهدون حجم التغيير الذي تتركه أعمالهم على مجمل أطر الحياة والمجتمع ، ولعل أوفر المؤلفين المسرحيين فيما بعد الحرب نصيبا من الاحترام ، " تنسي وليامز وآرثر ميلر، اللذان أحرزا أول خطوات نجاحهما بمسرحيات كتبت في ظلال سنوات ما قبل الحرب ، كما هي الحال في مسرحية " - معرض الحيوانات الزجاجية T he Glass M enagerie"أو مسرحية الكاتب ارثر ميللر- كلهم أبنائي "…
الثعالب الصغيرة
في مسرحيتها"The Little Foxes" تواجه بنقد شديد ولاذع ومكشوف الأفكار والقيم السائدة والتي تعتبرها متخلفة وتعيق مجرى الحياة الصاعدة إلى بوابات جديدة والطامحة إلى بلوغ غايات المدنية والحضارة والوصول إلى الإنسان الأنموذج ، الحوار وكذلك التعبير الدرامي النافذ بشدة وصرامة وتوصيف دقيق إلى مصدر الأزمة التي يواجهها قسرا المجتمع البشري من جراء سوء التدبير والاستغلال للمال والمركز ولمصدر القوة بشكل ينم عن تخلف وجهل ، يرى الناقد"William Wright ": لقد كشفت ليليان هيلمان بإقدامها على كتابة المسرحية بالذات عن رغبتها في حدوث تغيير في القيم الشائعة " وثمة ناقد آخر هو "Richard Poirier "يقول :أن حبكة العمل الدرامي في الثعالب الصغيرة لاتقدم آية فكرة تطمئن إلى أن هذا التغيير سيقع في الغد القريب" وهذا في حقيقة الأمر يتعارض مع المنهج الذي تنطلق منه ليليان هيلمان التي ترى أن التغيير مهما تأجل حدوثه فهو آت لاريب ، وعلى الأفكار أن ترسم له المسار الصحيح والقريب ، وإذا توقفنا لحظة عند رأي الناقد الكبير"الآن .أس .داونر " الذي يرى أن الكاتبة هي اكثر واقعية من غيرها عندما تتحدث عن الآمال العريضة التي يتوقعها الجنس البشري من التقدم الصناعي والتكنولوجي وذلك واضح في مسرحيتيها " ساعة الأطفال والثعالب الصغيرة " اللتان تعتبران اجمل ما كتبت حيث قدمت فيهما نماذج اجتماعية لها ارتباط وثيق بفكر وفلسفة واتجاهات الحياة في تلك الفترة" ، وتدور أحداث الثعالب الصغيرة في الجنوب ضمن فاصل زمني يشير إلى أن بداية القرن هي العلامة المقصودة ، والشخصية المحورية والتي تؤجج الصراع هي امرأة هائلة الطموح تسعى إلى الثراء بشتى الوسائل ، تدفعها تلك الرغبات الجامحة للاستيلاء على مشروع تجاري وتسلك لتحقيق هدفها الخفي والمعلن فيما بعد ، عدة طرق قاسية ، جشعها يدفعها إلى عدم إحضار دواء لزوجها المحتضر وبهذا تصبح قطبا مهما تتحرك لتدافع عن نفسها وتثأر من تلك الأزدراءات التي تلاحقها من تلك العائلات الأرستقراطية التي كانت تعاملها فيما مضى ، ذاك الجشع المذهل يفقدها حب ابنتها ، ويدب الخراب الكبير في مشاعرها الإنسانية فتتحول إلى نموذج شوهته الأطماع واستكان إلى ذاك الجشع الهائل ، لقد حشدت الكاتبة الكم الهائل من مشاهد القسوة ذات التأثير الشديد لدى المتلقي ، نادرا ما وجد الشر المادي المستند إلى عوامل القبح البشري تجسيدا كالذي ظهر في بطلة الثعالب الصغيرة…
الانحراف والفكر والتجارة
أن النماذج الاجتماعية التي ظهرت في مسرحيات ليليان هيلمان ظلت دائما تستحق الكشف والمتابعة وهي قريبة تماما من رصد أجواء المفسدين والسماسرة الذين يشكلون في حالات التجريد أوضاعا سياسية وتجارية ومراحل من التخريب الاقتصادي والإنساني ، تلك الصور تجتذب الطبقات المختلفة عند تقديمها في المسرح أوفى عموم النتاج المقروء بغض النظر عن مستوى تلك النتاجات والتي كان يغلب عليها عموما الموقف الهادف والجهد الباحث ضمن حالات الرصد والمتابعة والكشف ، بما يقربها من الدخول إلى الينابيع المؤثرة في الاتجاه الإنساني بشكل خاص ، تجسدت في كتابات ليليان هيلمان دعوات واضحة إلى مناقشة هموم العصر ومشاكل الإنسان ومثلت بذلك تيارا مهما في الأدب العالمي ، " ومع أن مسرحيتها الأولى لم تحدث ضجة ذعر جماعية لكنها لم تكن تفتقر إلى تأثير كتأثير الصدمة القوية " شكلت كتابات ليليان دراسة أليمة لجبروت المسنين والموسرين بما يؤدي إلى تأثيرات حادة على الشباب والفقراء ، ابتكرت الكاتبة لعرض هذا الموضوع حبكة درامية تعتمد على مزاعم عن حب شاذ بين امرأتين ، تلك القصة اجتذبت ذوي الفضول والباحثين عن كل موضوع غريب ، بيد أن الجميع ممن كانوا يتصورون عرض الأفعال الشاذة على خشبة المسرح صدموا عندما وجدوا هيلمان تعالج القصة بطريقة لا تثير الأحاسيس والفكرة تقوم على حكاية في غاية البساطة " شابتان تناقلت الشائعات حبهما تحاولان أن تديرا مدرسة داخلية صغيرة للبنات، ولابد أن تحسبا نفقاتهما بعناية وحرص ، لقلة مالهما ، ولاتلبث تلميذة عصابية ، عديمة الضمير ، أن تشرع في التهامس عنهما ، ومع أن همسها يقوم على قرينة جد ضعيفة ، فإنه كاف لأن يدمر الشابتين ، إذ أن جدة الطفلة سيدة ذات نفوذ في المنطقة تصدق الأكذوبة وتروج لها، تصفها هيلمان في مذكراتها على النحو التالي":هي عجوز غنية ، من جيل أعتاد أن يفرض ما يشاء ، وان يخلق الحقائق وفق هواه ، وتكشف نهاية الأحداث عن مدى نفوذها ، وتقر إحدى فريستي الأكذوبة بأنها كانت تشعر من عهد طويل بتعلق عاطفي بصديقتها ، وإن لم يحدث أي شيء جنسي صريح ، لاتجد مخرجا إلا في الانتحار ..
إنجازات الماضي
منذ البداية أدركت ليليان هيلمان أن مواصلتها للإنتاج الدرامي الأدبي يجب أن يكون ذات صلة وثيقة بتلك الدعوات السابقة التي طرحتها نتاجات الأدب الأمريكي عموما وهي التي كانت تدعو إلى إشاعة الحرية والتمرد والمواجهة إلى حد التصادم المريع مع المصطلح الاجتماعي المتخلف وعدم الاستكانة للقيم والأخلاق المتوارثة ولهذا شكلت كتاباتها مثل"The Children's Hour\ Days toCome\ The Little Foxe \ Watch on the Rhine \Another Part Of the Forest \ The Autumn Garden "نمطا جديدا لتلك الأفكار التي أثارتها كتابات الماضي في المسرحيات والروايات ودواوين الشعر، تلك التي كتبت بدافع بعيد عن التسلية والإمتاع ، بل كانت هي تهدف إلى مناقشة الأفكار التي في الغالب تتصل بشكل مباشر بالأوضاع الاجتماعية والسياسية وعموم مشكلات الإنسان المعاصر ، لقد اجتهدت في بناء درا مات مضيئة ذات تجربة إنسانية حية المضمون والشكل وبذلك أخذت تتوسع لديها دائرة الإبداع لتحلق في الفضاء الواسع باحثة عن المجال الخصب لمناقشة مشاكل العصر المعقدة ذات الحس الإنساني،لقد وجدت هيلمان أن تجاربها الإبداعية تقترب من تلك التجارب الرائدة والتي وسمت الأدب والثقافة الأمريكية كما لدى أونيل وميلر ووليامز وأوديتس" وصف الناقد مالكولم جولنشتاين كتاب مرحلة الثلاثينات في أمريكا ، بأنهم قلة من أهل الفكر ولكنهم قادرون على خلق دراما ذات أهداف جديدة ومنشطة لحركة المسرح والأدب العالمي " أن عوامل الاحتجاج الاجتماعي المتزايد كشفت أمام الكاتبة وغيرها من الكتاب آفاقا جديدة للتصادم مع القيم والموروثات الاجتماعية ونظم القوانين البالية، وأعتمدت أيضا إشاعة سبل المواجهة الحازمة في إثارة النقمة الكبيرة على صور التطرف المادي ومظاهر الظلم والاستغلال، وفتحت المجال واسعا لأشرعة التقدم الاجتماعي وظلت تواصل المناداة بكبح تلك العوائق المستترة والتي تستند في بعض ركائزها إلى فقرات قانون رديء مستورد.
فواصل أخرى
أن التمعن العميق بنتاج كتاب من أمثال "ماكسويل اندرسون، آس . ان .بيرمان، وروبرت شيرود" يوضح وجود التعبير الدقيق عن الاتجاه التقليدي والمحافظ للطبقة الوسطى ، ولذلك حفلت أعمالهم الأدبية الهامة بنكهة مأساوية وطابع جدي في مناقشة المشاكل والهموم الإنسانية ، ولقد تمثلت في أغلب الشرائح التي تجسد أعمالهم الأدبية نماذج الطبقة الوسطى حتى أن النقاد اعتبروا تلك الأعمال الأدبية على اختلاف المضامين التي تناولتها تمثل البديل الموضوعي لتلك النماذج الأدبية التي ظهرت في القرن الثامن عشر ، فمسرحية وليامز " معرض الحيوانات الزجاجية " وكذلك مسرحية أرثر ميلر "كلهم أبنائي " استهدفتا التوترات التي نشأت في فضاء العائلة وناصرتا حق الشباب في التمرد على دنيا آبائهم المرتبكة" أن كتاب الثلاثينات أومايطلق عليهم كتاب الضائقة الاقتصادية كانوا يتساءلون: ماذا يفيد الإنسان، إذا هو كسب الدنيا بأسرها وخسر نفسه"…
تجارب أدبية أخرى
ذات المضمون الذي تناولته في ساعة الأطفال والثعالب الصغيرة أعادت مناقشته في إطار جديد في مسرحية " السهر على نهر الراين" والتي اقتبس عنها فيلم سينمائي وقد كرست لفضح الفاشية الهتلرية وأخطارها على الوجود البشري ثم ظهرت مسرحيتها" آلا عيب في الصندرة"وذلك في العام 1960 والتي تعد مزيدا من إلقاء الضوء على العلاقات الأسرية المعقدة وتلك المسرحية حصلت على جائزة نقاد المسرح الأمريكي ، وصدرت لها أيضا"ثلاثة مجلدات من مذكراتها الخاصة والتي حصلت على إعجاب الكثيرين وهي على التوالي"امرأة لا تقهر.....!
النزهة القصيرة للسيد لوفداي قصة إيفلين واو - ترجمة أسعد الصالح
1-
بينما كانت السيارة تلج أبواب مشفى الإقليم للأمراض العقلية أبدت السيدة موبنغ ملاحظة بقولها: "لن تجدي عظيم تغيير قد طرأ على والدك".
فسألتها أنجيلا قائلة: "هل سيكون مرتدياً بزة رسمية؟
أجابت الأم: "كلا ياعزيزتي، بالطبع لا، فهو يلقى أفضل العناية والاهتمام".
هذه الزيارة هي الأولى من نوعها لأنجيلا وقد تمت بناءً على اقتراح منها.
هاقد مضت عشر سنوات على ذلك اليوم الممطر أواخر الصيف حيث تم أخذ اللورد موبنغ إلى حيث مقره الآن إنه يوم من الذكريات المشوشة بل المريرة للسيدة موبنغ. لقد شهد يوم حفلة الحديقة السنوية التي تقيمها السيدة موبنغ -والمليء بالمرارة دائماً- اضطراباً سببه تقلب الجو. ذلك الجو الذي ظل صافياً متألقاً ومبشراً إلى أن وصل الرعيل الأول من الضيوف، فانقلب فجأة إلى سحب لفت اليوم بالظلام وأشبعته بالمطر. متسارعة الخُطا نحو حاجب يقي من المطر وانقلب السرادق المقام في الهواء الطلق رأساً على عقب وحُملت الكراسي والوسائد بطريقة لم تخل من الذعر، وكان الهواء قد رفع غطاء إحدى طاولات الطعام إلى أغصان شجرة صنوبر حيث أصبح يرفرف مع المطر. أما الضيوف فكانوا -في الفترة التي يصفوا فيها الجو- يخرجون على حذر إلى المروج المخضلة بماء المطر، ثم تأتي عاصفة أخرى تليها عشرون دقيقة فيها تشرق الشمس مرة أخرى ويظهر ضوءها.
لقد كان عصر ذلك اليوم بغيضاً كريهاً، وكانت الطامة الكبرى فيه عند الساعة السادسة مساءً عندما حاول والدها الانتحار.
كان من عادة السيد موبنغ التهديد بأن ينتحر بمناسبة حفلة الحديقة في تلك السنة وبينما كان بعض الجيران يبحثون عن ملجأ يقيهم المطر وجدوه وقد اسود وجهه إذ كان معلقاً على هيئة المشنوق بحمالات بنطاله في بيت البرتقال البلاستيكي. قام الجيران بإعادة قدميه إلى الأرض مرة أخرى وقبل العشاء طُلبت له سيارة مقفلة (لتأخذه إلى حيث مقره الآن).
منذ ذلك الحين ومن موسم إلى موسم كانت للسيدة موبنغ زيارات لمشفى الأمراض العقلية حيث تعود عند وقت تناول الشاي والكتمان يلف مالقيت هناك.
كان العديد من جيرانها يميلون إلى نقد مقر إقامة اللورد موبنغ الذي بكل تأكيد لم يكن نزيلاً عادياً. لقد كان مقيماً في جناح منفصل من أجنحة المشفى مخصص لعزل المجانين الأثرياء فهم الأوفر حظاً والذين يتم إعطاؤهم مراعاة كاملة بحسب نقاط ضعفهم، فهم قادرون على اختيار ألبستهم الخاصة (يطلق الكثير منهم العنان لأخيلة مفعمة بالحياة) ويمكن أن يدخنوا سجائراً من أغلى الماركات، وكذلك، في الذكريات السنوية لشهاداتهم، يمكن أن يستضيفوا أياً من النزلاء الآخرين، الذين كانت بينهم صلة، على حفلات عشاء خاصة.
على كل حال فإن الحقيقة تظل أن هذا المشفى كان بعيداً عن كونه أغلى أنواع المعاهد حيث أن ذلك العنوان الثابت "مأوى الإقليم للمختلين عقلياً" المختوم على ورق كتابة الرسائل، والمرسوم على البزة النظامية لكل خادم فيه، والمكتوب بالدهان حتى على لوحة بارزة عند المدخل الرئيسي يشير إلى أكثر الاتحادات رخصاً ووضاعة. وبين فترة وأخرى وبلباقة تزيد حيناً وتنقص حيناً آخر يلفت أصدقاء السيدة موبنغ نظرها إلى عينات من منازل التمريض الساحلية حيث "أطباء مؤهلون مع مساحات خاصة وكبيرة تتناسب مع مهمة العناية بالحالات الصعبة".
لكنها كانت لاتلقي بالاً يذكر. عندما يبلغ ابنها سن الرشد يمكن أن يقوم بما يراه مناسباً أما في هذه الأثناء فإنها لاتميل إلى تخفيف نظامها الاقتصادي. لقد خدعها زوجها في اليوم الذي تطلعت فيه دون بقية أيام السنة إلى مساندة مخلصة وهو في وضع أفضل مما يستحقه.
كان هناك القليل من الأشخاص المنفردين ممن يلبسون معاطفاً ثقيلة يمشون بتثاقل وبخطوات واسعة حول المنتزه.
"أولئك هم مجانين الطبقة الوسطى" علقت الأم "هناك حديقة أزهار جميلة جداً وصغيرة لأناس كأبيك. لقد أرسلت لهم بعض الشتلات السنة الماضية".
مرت سيارتهما بواجهة المبنى ذات القرميد الأصفر والخالية من المنافذ عندما اتجهت إلى مدخل الطبيب الخاص حيث استقبلهم الطبيب في "غرفة الزوار" المعدة لمقابلات من هذا النوع.
كانت نافذة الغرفة محمية من الداخل بتشابكٍ من القضبان والأسلاك. لم يكن هناك موقد نار وعندما حاولت أنجيلا أن تزيد من المسافة الفاصلة بين كرسيها والشوفاج أدركت أن كرسيها تم تثبيته بالأرض بواسطة المسامير والبراغي.
قال الطبيب: "اللورد موبنغ على أهبة الاستعداد لرؤيتك"
فكان السؤال: "كيف حاله".
"أوه، بخير، يسرني أن أقول إنه فعلاً بخير كثير. صحيح أنه أصيب بزكام كريه جداً فيما مضى من الوقت لكنه عدا ذلك في حالة ممتازة حتى أنه يمضي كثيراً من وقته في الكتابة".
ترامى إلى سمعهم صوت خطوات متثاقلة ووثّابة قادمة عبر الممر المرصوف بالبلاط الحجري. كان الصوت خارج الباب لشخص ذي مزاج سيء لايمكن إرضاؤه، وقد عرفت أنجيلا أنه لوالدها إذ قال: "ليس لدي الوقت، أقول لك. دعهم يرجعون إلى هنا فيما بعد".
فجاء الرد من شخص ذي نغمة لطيفة ذات نبرة ريفية لا تكاد تذكر "عليك أن تأتي معي الآن. إنه جمهور رسمي بكل معنى الكلمة. ثم أنه ليس عليك أن تمكث أكثر مما يطيب لك".
ثم فتح الباب مدفوعاً (ليس فيه قفل، أو مايثبته) ودخل اللورد موبنغ بصحبة رجل كهل صغير الجسم يغطي البياض كامل شعره وينم وجهه عن مقدار عظيم من اللطافة.
"هذا هو السيد لوفداي مرافق اللورد موبنغ".
"بل سكرتيري" قال اللورد موبنغ ثم اندفع يمشي الهوينا وصافح زوجته.
"هذه أنجيلا تتذكرها، أليس كذلك؟"
"لا. يصعب علي القول بأني أتذكرها. ما الذي تريده؟"
لقد أتينا لرؤيتك.
"حسناً، لاتثريب عليكما غير أنكما جئتما في وقت غير مناسب إلى أبعد الحدود، فأنا مشغول جداً. هل قمت بطباعة تلك الرسالة الموجهة إلى البابا يالوفداي؟"
"لا، ياسيدي. إن كنت تذكر فقد طلبت مني أن أبحث عن الأرقام المتعلقة بمصائد سمك نيوفاوندلاند قبل كل شيء".
"وهكذا فعلت، هذا من حسن الحظ حيث يجب إعادة كتابة مسودتها كاملة إذ ظهر مقدار عظيم من المعلومات منذ وقت الغداء. مقدار عظيم.. أترين ياعزيزتي إنني مشغول تماماً".
ثم صرف عينيه القلقتين والمضحكتين إلى أنجيلا قائلاً:
"أعتقد أنك جئت من قرب الدانوب حسناً يجب أن تعيدي الكرة وتأتي لاحقاً. أخبريهم أنها ستكون على مايرام، على مايرام بشكل تام، غير أني لم أجد وقتاً لإعطائها اهتمامي الكامل، أخبريهم ذلك".
"حسناً جداً يا أبتاه".
"على كل حال" قال اللورد موبنغ بمزاج يظهر سوء الطبع "إنها مسألة الأهمية الثانوية. هناك مايجب أن يُتعامل معه قبل كل شيء مثل الألب والأمازون والتايغزر. أليس كذلك يا لوفداي؟.. دانوب حقاً. نهر صغير كريه. سوف لن أسميه إلا جدولاً مائياً. حسناً، لايمكن التوقف. كان لطفاً منكما المجيء. كنت سأعمل لكما المزيد لو استطعت لكن ترون بأم أعينكم كيف أني ثابت. اكتبوا لي عنها. هذا كل شيء. ضعوها بالأبيض والأسود" قال ذلك وغادر الغرفة.
قال الطبيب: "أترون إنه في حالة ممتازة، إن وزنه يزداد ويأكل وينام ويؤدي كل هذا بشكل ممتاز. في الحقيقة، إن الاتجاه العام لنظامه ينأى عن اللوم" .
فُتح الباب من جديد وعاد لوفداي ثانية قائلاً "سيدي، التمس المعذرة لعودتي، لكنني كنت أخشى أنه ربما يصيب القلق صدر الفتاة لأن سيارته لم يعرفها. يجب أن لا تؤاخذيه. يا آنسة. المرة القادمة سيكون من دواعي سروره أن يراك. هو منزعج هذا اليوم فقط لأنه مقصرٌ في عمله. كما ترى ياسيدي فقد مر هذا الأسبوع كله وأنا أقوم بتقديم المساعدة في المكتبة، ولم يكن هناك متسع لأن أطبع كل تقارير سيادته.
لقد أصابه الارتباك في فهرس بطاقاته. هذا كل مافي الأمر ولم يكن ينوي ضرراً أو ضراراً".
"ياله من رجل لطيف" قالت أنجيلا عندما رجع لوفداي إلى العمل الموكل به. فرد عليها الطبيب قائلاً "حقاً، فأنا لا أعرف ماذا كان ينبغي أن نفعل لو لم يكن بيننا لوفداي الكهل. الكل يكن له المحبة سواء أفراد الإدارة أو المرضى". قالت السيدة موبنغ: "أتذكره جيداً. إنه من المريح أن تعرف أنه باستطاعتك الحصول على سجّانين جيدين كهؤلاء. الناس الذين لايعلمون يقولون مثل هذه الأشياء السخيفة عن مشافي الأمراض العقلية" فقال الطبيب: "أوه، لكن لوفداي ليس سجّاناً" فقالت أنجيلا: "لاأظنك تريد أن تقول أنه مجنون أيضاً" فرد عليها مصححاً: "إنه أحد نزلاء المشفى. إنها إلى حد بعيد حالة مثيرة للاهتمام لقد مضى عليه خمس وثلاثون سنة وهو هنا" قالت أنجيلا: "لكنني لم أرَ أحداً أعقل منه" فقال الطبيب "بلا شك هو يملك في الظاهر هذا الإيحاء. وفي العشرين عاماً الماضية كنا نعامله على هذا الأساس. إنه روح هذا المكان وحياته. وهو بالطبع ليس من مرضى القسم الخاص لكننا نسمح له أن يختلط بهم بحرية. فهو يلعب البلياردو بشكل رائع ويقوم بالألعاب السحرية في الحفلات الموسيقية ويصلح أجهزة الحاكي (الفونوغراف) التي يملكونها ويقوم بخدمتهم ويساعدهم في حل الكلمات المتقاطعة والألغاز وفي هوايات متعددة. ونحن بدورنا نسمح لهم أن يقدموا له بعض المال إكراماً لجهوده على الخدمات التي يقوم بها ولابد أن يكون الآن في حوزته ثروة صغيرة. وهو لديه طريقة خاصة في التعامل حتى مع أكثرهم إزعاجاً فهو لايقدر بثمن في نطاق هذا المكان.
"هذا حسنٌ، ولكن لم هو هنا".
"حسناً، إنه أمر محزن إلى حد بعيد، فعندما كان في ذروة شبابه قام بقتل شخص ما- أو فتاة لايعرف عنها شيء على الإطلاق حيث قام بطرحها أرضاً بعد أن كانت على دراجتها ومن ثم كتم أنفاسها ليقضي عليها. بعد هذا مباشرة سلم نفسه وجاء إلى هذا المكان منذ ذلك الحادث".
"لكنه وبكل تأكيد غير مؤذ الآن. لم لا يُترك وشأنه ليخرج من هنا؟".
"لم لا، أفترض لو أن هذا الأمر كان يهم أي أحد إذاً لحدث ماتتحدثين عنه. فهو لاقريب له سوى أخت غير شقيقة تعيش في بليماوث كان من عادتها أن تزوره من وقت لآخر لكنها لم تعده منذ سنوات. وكونه في منتهى السعادة عندنا فأنا أؤكد لك أننا غير عازمين على أن نباشر بالإجراءات الأولى لإخراجه، فضلاً عن كونه عظيم الفائدة لنا".
فقالت أنجيلا: "لكن هذا لايبدو عدلاً".
"انظري إلى والدك، إنه ضائع تماماً لولا أن لوفداي يعمل على أنه سكرتيره".
"لكن هذا لايبدو عدلاً".
2-
غادرت أنجيلا المشفى يرافقها إحساس بظلم شديد الوطأة أما أمها فلم تظهر أي تعاطف.
"فكري في أن أحداً ما قد أُقفل عليه في صندوق من الجنون طوال حياته" فأجابتها أمها: "لقد حاول شنق نفسه في بيت البرتقال البلاستيكي أمام عائلة تشتير مارتن".
"لا أقصد والدي بالحديث إنما أقصد السيد لوفداي"
"لا أظن أني أعرفه" أجابت الأم. فردت عليها أنجيلا: "بلى، ذلك المعتوه الذي جعلوه يقوم برعاية أبي".
"سكرتير والدك. الذي يتصف بأعلى درجات التهذيب حسب ظني والمناسب بصورة فائقة في عمله".
في هذه الأثناء تركت أنجيلا هذه المسألة غير أنها عادت إليها اليوم التالي عند وقت الغداء. "أمي، ما الذي ينبغي القيام به لإخراج الناس من الصندوق (المشفى)؟".
"الصندوق؟ سبحان الله أيتها الطفلة. آمل أن لاتتوقعي رجوع أبيك إلى هنا" فردت أنجيلا: "لا، لا بل السيد لوفداي".
"تبدين مرتبكة لي تماماً يا أنجيلا. أرى أنه كان من الخطأ أن آخذك معي في زيارتنا القصيرة يوم أمس".
بعد الغداء اختفت أنجيلا لتظهر في المكتبة حيث غاصت مباشرة في قراءة القوانين المتعلقة بالجنون والمعروضة في الموسوعة. ولم تعد تفتح هذا الموضوع مع أمها، ولكن بعد أسبوعين وعندما ظهرت مسألة أخذ بعض طيور التَّدْرُج إلى والدها بمناسبة حفلة شهادته الحادية عشر أظهرت أنجيلا رغبة غير عادية لتشاركهم في زيارته. أما أمها فلم تلاحظ شيئاً مريباً لانشغالها باهتمامات أخرى.
قادت أنجيلا سيارتها الصغيرة متوجهة إلى المشفى وبعد أن سلمت الطيور التي تم اصطيادها سألت عن السيد لوفداي الذي كان مشغولاً في تلك الأثناء بصنع تاج لأحد أصحابه إذ من المتوقع في كل ساعة أن يُمسح بالزيت على أنه امبراطور البرازيل. لكن لوفداي ترك عمله ليستمتع بعدة دقائق من الحديث مع أنجيلا حيث تحدثوا عن صحة الأب ومعنوياته. ثم بعد برهة من الوقت، وجهت أنجيلا ملاحظة قائلة: "ألا تريد في وقت ما أن تذهب بعيداً من هنا" نظر السيد لوفداي إليها بعينين يجمعان لطافة وزرقة رمادية وقال: "لقد اعتدت على هذه الحياة، ياآنسة. وأنا مغرم بالناس المساكين هنا وأظن أن العديد منهم يبادلوني الشعور نفسه. على الأقل أظن أنهم سيفتقدوني إذا ذهبت بعيداً عنهم".
"لكن ألم يحدث مرة أن فكرت بعودة حريتك إليك مرة أخرى".
"أوه، نعم ياآنسة فكرت بذلك -أكاد أفكر بذلك الوقت كله".
"ماذا ستفعل إن خرجت؟ يجب أن يكون هناك شيء ما لتفعله عند خروجك لا أن تبقى هنا". فتململ الرجل الكهل مظهراً عدم الارتياح وقال "حسناً يا آنسة، بالرغم من أنه يبدو نكراناً للجميل فإنني لا أستطيع أن أنكر ضرورة ترحيبي بنزهة قصير أقوم بها مرة واحدة قبل أن أكون أكبر سناً من أن أستمتع بها. أتوقع أنه لكلٍ منا طموحاته السرية، وهناك شيء واحد أتمنى دائماً لو استطعت تنفيذه: يجب أن لاتسأليني ما هو لن تستغرق وقتاً طويلاً. لكنني حقاً أشعر أنني لو فعلتها، فقط ليوم ما أو حتى عصر يوم ما إذاً سأموت قرير العين. سأتمكن من الاستقرار مرة أخرى بشكل مريح أكثر وسأكرس نفسي لأولئك المجانين المساكين بقلب أكثر انشراحاً. نعم، إنني أشعر بذلك".
في عصر ذلك اليوم ذرفت عينا أنجيلا الدموع وهي تغادر بسيارتها بعيداً وكان قولها: "يجب أن ينال نزهته القصيرة، بارك الله فيه".
3-
منذ ذلك اليوم ولمدة عدة أسابيع كان لأنجيلا هدف جديد في الحياة. لقد أحدثت تغييراً في ما اعتادت عليه من روتين منزلها مع ملامح توحي بشرود الذهن وتأدب متحفظ وغير مألوف مما أصاب السيدة موبنغ بحيرة شديدة "أعتقد أن البنت عاشقة. أسأل الله فقط أن لايكون ابن ايغبرستون الفظ".
كانت أنجيلا تقرأ في المكتبة كثيراً واستجوبت كل الضيوف الذين زعموا أن لديهم معرفة قانونية أو طبية وأظهرت حسن نية فائقة للسير الطاعن في السن رودرك لانغسكوت عضو البرلمان الممثل لهم. إن أسماء مثل "طبيب الأمراض العقلية" و"المحامي" و "موظفي الحكومة" كان لها في هذه الأثناء وقع الفتنة على أنجيلا الفتنة التي كانت من قبل من نصيب ممثلي الأفلام والمصارعين المحترفين كانت امرأة تحمل قضية وقبل نهاية موسم الصيد، انتصرت في قضيتها. لقد نال السيد لوفداي حريته.
كان طبيب المشفى قد أبدى نفوراً لكنه لم يظهر معارضة حقيقية.
وقد قام السير رودرك بالكتابة إلى وزارة الداخلية، وتم توقيع الأوراق الضرورية، وأخيراً جاء اليوم الذي نال فيه السيد لوفداي موافقة لمغادرة المأوى الذي قضى فيه هذه السنوات الطوال والمليئة بالفائدة.
شهدت مغادرة لوفداي بعض مظاهر الاحتفال حيث كانت أنجيلا والسير رودرك يجلسان مع الأطباء على منصة الألعاب الرياضية وخلفهم اجتمع من المعهد كل من ظُنّ أنه في قوى عقلية مستقرة بشكل يكفي لجعله يتحمل الإثارة.
مع القليل من التعابير المناسبة في تعبيرها عن الأسف وبالنيابة عن المجانين الأكثر ثراءً قدم اللورد موبنغ للسيد لوفداي علبة سجائر ذهبية. أما أولئك الذين افترضوا كونهم أباطرة فقد غمروه بالنياشين وألقاب الشرف. وأهداه السجانون ساعة يد فضية بينما لم يجد النزلاء الذين لايدفعون مالاً سوى الدموع التي انهمرت من العديد منهم يوم التقديم.
كانت الكلمة الرئيسية في عصر ذلك اليوم للطبيب الذي تكلم قائلاً: "تذكر أنك لن تترك وراءك إلا أحرَّ أمنياتنا الطيبة. إن روابطاً تربطك بنا لن يأتيها النسيان والوقت سوف يعمق شعورنا بأننا مدينون لك. وإن حدث فيما تستقبل من أيام وشعرت بأن حياتك سترهقك في هذا العالم فسوف يكون ترحيب بك دائم هنا.
سيكون الباب مفتوحاً لعملك هنا".
وفي أثناء سيره إلى الطريق الرئيسية كان مايقارب الاثني عشر مجنوناُ ذوي عاهات مختلفة يتبعونه بخطوات وثّابة إلى أن فتحت البوابات الحديدية ليخطو السيد لوفداي في طريق الحرية. كانت حقيبته الصغيرة قد وصلت إلى المحطة من قبل، لذا اختار أن يمضي ماشياً. كان ملازماً للصمت فيما يتعلق بخططه أما المال فكان مزوداً بنصيب وافر منه، وكان الانطباع العام أنه متجه إلى لندن حيث ينال قسطاً من المتعة قبل أن يزور أخته غير الشقيقة المقيمة في مدينة بليماوث ومما فاجأ الجميع هو عودته ضمن ساعتين من نيله لحريته وكانت لا تفارقه ابتسامة غريبة الأطوار، ابتسامة فيها الرقة واحترام الذات عند تذكر حدثٍ قد مضى. وقد بين للطبيب قائلاً:
"لقد عدت من حيث ذهبت، وأظن أني الآن باق هنا إلى الأبد".
"لكن يالوفداي ماهذه الإجازة القصيرة. أخشى أنك لم تكد تمتع نفسك على الإطلاق".
"أوه، نعم ياسيدي. شكراً لك ياسيدي. لقد نلت الكثير جداً من المتعة. لقد كنت أمني النفس بلذة قصيرة لامثيل لها. صحيح أنها كانت قصيرة ياسيدي لكنها كانت أكثر إقناعاً. الآن سيكون في مقدوري الاستقرار ثانية في عملي دون أي أسف على شيء".
وفي أعلى الطريق وعلى بعد نصف ميل من بوابات مشفى الأمراض العقلية اكتشفوا فيما بعد دراجة مهجورة. كانت هذه الدراجة ذات طابع أثري ملكاً لسيدة. كان يرقد في الخندق القريب من الدراجة تماماً جسد مخنوق لفتاة شابة اتفق -وهي تسير بدراجتها إلى بيتها لتناول وجبة الشاي- أن جاوزت السيد لوفداي الذي كان وهو يمشي بخطىً واسعة يتأمل في هذه الفرص السانحة له.
-تمت-
*ايفيلن واو (Evelyn Waugh) (1903-1966) روائي إنكليزي ولد في لندن ودرس في اكسفورد ولانسنغ. أمضى فترة الحرب العالمية الثانية في خدمة علم المملكة المتحدة مما أكسبه خبرة أصيلة لتصوير الحرب في أعماله التي من أشهرها ثلاثية (الرجال والسلاح) و (الضباط والنبلاء) و(استسلام غير مشروط). كتاباته فيها سخرية لاذعة للمجتمع الذي لاينال الفرد فيه فرصة التعبير عن القيم والأخلاق
- الآلة الأعجوبة - للكاتب اليوغسلافي برانكو جوفييج - ترجمة دوبرينا
الصافي وعهدى علي التميمي
لم يكن جدي "راده" يخشى أصناف الحيوانات "كالحيات، السحليات، والأسماك فقط"، بل ويتحذر من آلات ومكائن كثيرة أيضاً "كالبنادق، مقاييس الحرارة، الموازين وهكذا..
ولم يكن هناك تبرير ليجلب أحد ما لبيتنا بندقية لا مليئة بالطلقات ولا فارغة.. لا عاطلة ولا مفككة، وحين كان جدي ينظر لمقاييس الحرارة بدوار وألم في المعدة، أما الميزان فإنه يدير رأسه عنه وكأنه عين حاسدة..
لكن الساعة فقط، دائماً كان لدى جدي اتجاهها شعور بالاحترام والتبجيل وحين ينظر للساعة كأنه ينظر لشيء غامض تدب فيه الحياة ومفعم بالأسرار والأحجيات حكيمة وصافية كالأسلاف العادلين..
لم يكن يفضل أن يمسك الساعة بيده ربما لأنه كان يخشى أن تتوقف أو تتسخ قريب جدي سافا لص قديم وصعلوك كان دائم الجدال مع جدي حول الساعة.
-ها- كيف يخشى الساعة كأنها شيء حي..ها؟.
-طبعاً - هي شيء حي- بهدوء أجاب جدي
-الساعة حية؟؟ فتح فاهه بتعجب.
-والله حيه - وأذكى منك بعشر مرات- ولو أنه ليس صعباً أن يكون أي شيء أذكى من سافا..
تكدر العجوز وراح يتأفأف:
-أذكى مني؟ انظروا ما يقوله هذا.
-نعم، نعم منتصف النهار أو منتصف الليل وقت ما تشاء فقط ترفع الغطاء عن الساعة وهي تدق.. تاك.. تاك.. بكذا.. وكذا الوقت ها يا عزيزي الساعة تعرف كم الوقت وأي نهار.. وأنت لا تعرف كم فتحة في جسمك ولا أي شيء آخر "رفع جدي إصبعه وكأنه يعلمه".. أمام الساعة يا أخي "ستيفو" أنت أبله جداً.
-بالتأكيد.. أنا أبله. عند البابج يضعون العرق، وأنا هنا عديم الفائدة كمبرد أعمى.. يعترف بصدق وهو يردف الباب..
وفي بيتنا كما هو معروف ومذكور ليس لدى أي أحد ساعة ولم يكن هناك أحد يعرف قراءة الوقت.. وحين عاد عمي "لينجيو" من جبهة سالون.. تظاهر بمعرفة القراءة مع أنه يعلم أنه لا يعرف قراءة الوقت، ولكن توصلنا لمعرفة أنه لا يعرف سوى شيء يسير عن حركة ميل الساعة الصغير فقط، وحين يسأل عن الوقت كان يجيب تقريباً هكذا.
-بحجم الأظفر ويحل الظهر..
كانت قراءة الساعة بالنسبة لجدي مليئة بالأسرار وكأنها أعمال تكهنية كقراءة الكف..
كان لجدي رأي بهذا الخصوص "إذا كنت شخصاً مولوداً لهذا العمل فسوف تتعلم وإذا لم تكن لن تتعلم ويذهب وقتكُ هباءاً..
أما بالنسبة للنسوة فقط كان جدي يعتقد أنهن يجهلن في الساعة وأن هذا العمل ليس لهن بل هو للرجال فقط.. وهذا الموضوع كان محسوماً لدى جدي.. وفي إحدى السنوات دخلت الساعة بيتنا حيةً، وكان لدى جدي صديق يعتبره كأخيه واسمه "بيتراك" كان يتجول في القرى لتصليح سروج الخيول..
كان "بيتراك" طوال السنة يتجول تحت جبل "كرميج" ومن قرية إلى قرية يضع للناس السروج ويصلحها، ومقابل تعبه يحتسي الشراب ويتناول الطعام مع صاحب الدار التي كان يعمل فيها في تلك الأيام..
في كل عام في يوم العيد الديني(1) كان يأتي لبيتنا فجراً نظيفاً ومهندماً ليتبادل التهاني مع جدي..
-أخي راده، عسى أن يكون عيدنا سعيد.
كان يبقى لعدة أيام لدينا يشرب ويحكي كثيراً مع جدي ويقلب سروج جدي فيما إذا كانت تحتاج لإصلاح.. وفي ذات صباح صافح جدي وقبله مودعاً.. ومع التحية بدى كأنه يتنبأ "عن قريب سوف نتقابل لأن الدنيا تدور"... وفي إحدى السنوات حين سلم على جدي أعطاه ساعة جيب قد ذهب لونها عنها..
-هاك.. يا أخي احفظ لي هذه الأمانة للسنة القادمة، أخذتها مقابل عملي لدى شخص طيب، وأخشى أن أهبها مقابل الشراب في مكان ما..
كان جدي يمسح يديه بسرواله وأخذ الساعة بتبجيل كأنها ماء التعميد في الكنيسة..
-حسناً يا صاح سوف آخذ بالي منها كعيوني، وقُفل الصندوق على الساعة ونسينا إلى أن أتى يوم كنت عائداً فيه من المدرسة متفاخراً:
-جدي، أنا أعرف في الساعة، علمونا في المدرسة.
-اذهب يا أبله، لا يوجد طفل يفهم في الساعة، هلم ربما لو أكملت الخدمة العسكرية تغير الوضع.
-والله يا جدي، أعرف حتى تشغيلها.
-أي، أي كذب.
-أعطيني إياها وسوف ترى.
-توسلت وتعلقت لكن بلا جدوى، فحاجة غالية كهذه وبيد طفل كانت مجاذفة كبيرة بالنسبة لجدي..
لم يحضر صديق جدي "بيتراك" في العيد التالي فكان جدي متوتراً..
-ربما كان مريضاً والله أعلم؟
-يسأل جدي عنه في سوق المدينة وحيث يتجمع الناس في (القرية) لكن بلا جدوى.. ولم يلحظه أحد تحت جبل "كرميج" ولكنهم أخبروا جدي بأنهم رأوه فقط في مكان واحد فقد رأوه يعبر نهر "أونا" وقال أنه ذاهب إلى "كاوي" لكي يُصلح ويُضع السروج هناك..
-يا إلهي إنه دائماً ثمل سوف يسلبوه ضرباً مبرحاً، إنهم إنهم لصوص، راح جدي يكلم نفسه..
وفي عصر أحد الأيام حين وصلت من المدرسة ناداني جدي من غرفته الصغيرة لكي لا يرى أو يسمع أي كان. كان جدي لوحده في البيت.
-تعال هنا.
-قلب صندوقه وأخرج منه ساعة "بيتراك" من ورقة زرقاء ونظر لي بنظره ارتياب..
-أنت تقول، أعرف تشغيلها؟
-اعرف..
-هلم..
-حملني العجوز على سريره ووضع الساعة في يدي ونظر بتمعن لأصابعي. حين انتهت من تشغيلها واشتغلت الساعة بانتظام أخذها بيده وقربها من أذنه اليمنى..
وقال بسرور وهدوء؟
-ها، تشتغل، تشتغل، تدق.
وضع الساعة في حضنه، وكأنه كان يريد أن يرتاح قليلاً ونظر لمكان ما بعيد وقال بسرور:
-آه، كنت أعلم أنه حي، يا له من خبيث، حي ومعافى..
-من هو يا جدي؟
-صديقي وأخي "بيتراك" لو أنه مات لكانت ساعته ميتة أيضاً. نعم هكذا هو.
إلى العصر كان مزاج جدي جيداً ومرتاحاً وفي المساء اصطحبني معه إلى الطاحونة، وطوال المساء كنا جالسين عند باب الطاحونة ننظر إلى البدر في السماء نحن الإثنان الأبلهان الكبير والصغير، ومن حولنا كان يسمع نعيق الضفادع ولم نكن نعلم إن كنا على الأرض أو أننا نسبح مع القمر في السماء خلف الغيوم.